فصل: تفسير الآيات رقم (95- 97)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 97‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ‏(‏95‏)‏ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ‏(‏96‏)‏ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ‏(‏97‏)‏‏}‏

ولما فرغ من نصيحة أقرب الناس إليه وأحقهم بنصيحته وحفظه على الهدى إذ كان رأس الهداة، تشوف السامع إلى ما كان من غيره، فاستأنف تعالى ذكره بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي موسى عليه السلام لرأس أهل الضلال معرضاً عن أخيه بعد قبول عذره‏.‏ جاعلاً ما نسب إليه سبباً لسؤاله عن الحامل له عليه‏:‏ ‏{‏فما خطبك‏}‏ أي أمرك هذا العجيب العظيم الذي حملك على ما صنعت وأخبرني العزيز العليم أنك أنت أضللتهم به ‏{‏يا سامري * قال‏}‏ السامري مجيباً له‏:‏ ‏{‏بصرت‏}‏ من البصر والبصيرة ‏{‏بما لم يبصروا به‏}‏ من أمر الرسول الذي أجاز بنا البحر ‏{‏فقبضت‏}‏ أي فكان ذلك سبباً لأن قبضت ‏{‏قبضة‏}‏ أي مرة من القبض، أطلقها على المقبوض تسمية للمفعول بالمصدر ‏{‏من أثر‏}‏ فرس ذلك ‏{‏الرسول‏}‏ أي المعهود ‏{‏فنبذتها‏}‏ في الحلي الملقى في النار، أو في العجل ‏{‏وكذلك‏}‏ أي وكما سولت لي نفسي أخذ اثره ‏{‏سولت‏}‏ أي حسنت وزينت ‏{‏لي نفسي‏}‏ نبذها في الحلي فنبذتها، فكان منها ما كان، ولم يدعني إلى ذلك داع ولا حملني عليه حامل غير التسويل‏.‏

ولما كان فعله هذا مفرقاً لبني إسرائيل عن طريق الحق التي كانوا عليها، وجامعاً لهم على تمثال حيوان هو من أخس الحيوانات، وعلى نفسه بكونه صار متبوعاً في ذلك الضلال، لكونه كان سببه، عوقب بالنفرة من الإنسان الذي هو أشرف الحيوان، ليكون ذلك سبباً لضد ما تسبب عن فعله، فيعاقب بالدنيا بعقوبة لا شيء أشد منها وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعاً كلياً فلا يتصل بأحد ولا يتصل به أحد، بل يكون وحيداً طريداً ما دام حياً، فلذلك استؤنف الإخبار عن هذا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي له موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏فاذهب‏}‏ أي تسبب عن فعلك أني أقول لك‏:‏ اذهب من بيننا، أو حيث ذهبت ‏{‏فإن لك في الحياة‏}‏ أي ما دمت حياً ‏{‏أن تقول‏}‏ لكل من رأيته‏:‏ ‏{‏لا مساس‏}‏ أي لا تمسني ولا أمسك، فلا تقدر أن تنفك عن ذلك لإرادة الإله الحق ذلك بك وترغيبك فيه- بما أفادته اللام، لتعلم أنت ومن تبعك أنكم كنتم على أعظم ضلال في ترك القادر على كل شيء، واتباع ما لا قدرة له على شيء ‏{‏وإن لك‏}‏ بعد الممات ‏{‏موعداً‏}‏ للثواب إن تبت، وللعقاب إن أبيت ‏{‏لن تخلفه‏}‏ مبنياً للفاعل وللمفعول، أي لا يكون خلفك ولا تكون أنت خلفه، بل يكون كل منكما مواجهاً لصاحبه، لا انفكاك له عنه، كما أنك في الحياة لا تقدر أن تنفك عن النفرة من الناس، فاختر لنفسك ما يحلو‏.‏

ولما ذكر ما للإله الحق من القدرة التامة في الدارين، أتبعه عجز العجل فقال‏:‏ ‏{‏وانظر إلى إلهك‏}‏ أي بزعمك ‏{‏الذي ظلت‏}‏ أي دمت في مدة يسيرة جداً بما أشار إليه تخفيف التضعيف ‏{‏عليه عاكفاً‏}‏ أي مقبلاً مقارباً مواظباً جهاراً ‏{‏لنحرقنه‏}‏ أي بالنار وبالمبرد- كما سلف عن نص التوراة، وكان معنى ذلك أنه أحماه حتى لان فهان على المبارد ‏{‏ثم لننسفنه‏}‏ أي لنذرينه إذا صار سحالة ‏{‏في اليم‏}‏ أي البحر الذي أغرق الله فيه آل فرعون وهو أهل لأن يقصد فيجمع الله سحالته التي هي من حيلهم وأموالهم فيحميها في نار جهنم ويكويهم ويجعلها من أشد العذاب عليهم، وأكد الفعل إظهاراً لعظمة الله الذي أمره بذلك، وتحقيقاً للصدق في الوعد فقال‏:‏ ‏{‏نسفاً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 103‏]‏

‏{‏إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏98‏)‏ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ‏(‏99‏)‏ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ‏(‏100‏)‏ خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ‏(‏101‏)‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ‏(‏102‏)‏ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ‏(‏103‏)‏‏}‏

ولما أراهم بطلان ما هم عليه بالعيان، أخبرهم بالحق على وجه الحصر فقال‏:‏ ‏{‏إنما إلهكم‏}‏ جميعاً ‏{‏الله‏}‏ أي الجامع لصفات الكمال؛ ثم كشف المراد من ذلك وحققه بقوله‏:‏ ‏{‏الذي لا إله إلا هو‏}‏ أي لا يصلح لهذا المنصب أحد غيره لأنه ‏{‏وسع كل شيء علماً*‏}‏ تمييز محول عن الفاعل، أي أحاط علمه بكل شيء، فكان على كل شيء ممكن قديراً، فكان كل شيء إليه فقيراً، وهو غني عن كل شيء، وجوده يباين وجود غيره، وذاته تباين ذات غيره، وصفاته تباين صفات غيره، وأما العجل الذي عبدوه فلو كان حياً كان مثلاً في الغباوة، فلا يصلح للإلهية بوجه ولا في عبادته شيء من حق، وكان القياس على ما يتبادر إلى الذهن حيث نفى عنه العلم بقوله ‏{‏ألا يرجع إليهم قولاً‏}‏ والقدرة بقوله ‏{‏ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً‏}‏ أن يثبتا هنا للاله الحق، ولكنه اعتنى بإثبات العلم الواسع لاستلزامه للقدرة على كل ما يمكن أن يتعلق به، بإفادة الأسباب لشيء المراد، ومنع الموانع عنه فيكون لا محالة، ولو لم يكن كذلك لكان التخلف للجهل إما بما يفيد مقتضياً أو يمنع مانعاً، وأدل دليل على ذلك قوله تعالى ‏{‏ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 188‏]‏ ولا يستلزم إثبات القدرة المحيطة العلم الشامل لخروج قسم المحال الذي ليس من شأن القدرة أن تتعلق به‏.‏

ولما تمت هذه القصة على هذا الأسلوب الأعظم، والسبيل الأقوم، متكفلة بالدلالة على القدرة على ما وقعت إليه الإشارة من البشارة أول السورة بتكثير هذه الأمة ورد العرب عن غيهم بعد طول التمادي في العناد، والتنكب عن سبيل الرشاد، إلى ما تخللها من التسلية بأحوال السلف الصالح والتأسية، مفصلة من أدلة التوحيد والبعث، وغير ذلك من الحكم، بما يبعث الهمم، على معالي الشيم، كان كأنه قيل‏:‏ هل يعاد شيء من القصص على هذا الأسلوب البديع والمثال الرفيع‏؟‏ فقيل‏:‏ نعم ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا القص العالي، في هذا النظم العزيز الغالي، لقصة موسى ومن ذكر معه ‏{‏نقص عليك‏}‏ أي بما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء؛ وأشار إلى جلالة علمه بقوله‏:‏ ‏{‏من أنباء‏}‏ أي أخبار ‏{‏ما قد سبق‏}‏ من الأزمان والكوائن الجليلة، زيادة في علمك، وإجلالاً لمقدارك، وتسلية لقلبك، وإذهاباً لحزنك، بما اتفق للرسل من قبلك وتكثيراً لأتباعك وزيادة في معجزاتك، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة وتأكد الحجة على من عابه‏:‏ ‏{‏وقد ءاتيناك‏}‏ من عظمتنا تشريفاً لك وتعظيماً لقدرك ‏{‏من لدنا‏}‏ أي من عندنا من الأمر الشريف بمزيد خصوصيته بنا ولطيف اتصاله بحضرتنا من غيب غيباً ‏{‏ذكرا*‏}‏ عظيماً جليلاً جامعاً لما أظهرناه من أمرنا في التوراة، وما ابطنّاه من سرنا في الإنجيل، وما أودعناه من سكينتنا في الزبور، مع ما خصصناه به من لطائف المزايا، وعظائم الأسرار، يعرف بمجرد تلاوته أنه من عندنا لما يُشهد له من الروح، ويُذاق له من الإخبات والسكون، ويرى له من الجلالة في الصدور مع القطع بأن أحداً لا يقدر أن يعارضه، وضمناه تلك القصص مع ما زدنا فيه على ذلك من المواعظ والأحكام ودقائق اشارات الحقائق، متكفلاً بسعادة الدارين وحسنى الحسنيين، فمن أقبل عليه كان مذكراً له بكل ما يريد من العلوم النافعة‏.‏

ولما اشتمل هذا الذكر على جميع أبواب الخير، فكان كل مل ليس له فيه أصل شقاور محضة وضلالاً بعيداً، قال يقص عليه من أنباء ما يأتي كما قص من أنباء ما قد سبق‏:‏ ‏{‏من أعرض عنه‏}‏ أي عن ذلك الذكر، وهو عام في جميع من يمكن دخوله في معنى «من» من العالمين ‏{‏فإنه يحمل‏}‏ ولما كان المراد استغراق الوقت قال‏:‏ ‏{‏يوم القيامة وزراً*‏}‏ أي حملاً ثقيلاً من العذاب الذي سببه الوزر وهو الذنب، جزاء لإعراضه عنه واشتغاله بغيره ‏{‏خالدين فيه‏}‏ وجمع هنا حملاً على المعنى بعد الإفراد للفظ، تنبيهاً على العموم لئلا يغفل عنه بطول الفصل، أو يظن أن الجماعة يمكنهم المدافعة، ويمكن أن يراد بالوزر الحمل الثقيل من الإثم، ويكون الضمير في «فيه» للعذاب المسبب عنه فيكون استخداماً كقوله‏:‏

إذا نزل السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا

ولما كانوا منكرين ليوم القيامة، صرح بذكره ثانياً مع قرب العهد، قارعاً لأسماعهم به، مجرياً له إجراء ما هو به جدير من أنه متحقق لا مرية فيه فقال‏:‏ ‏{‏وساء‏}‏ أي وبئس؛ وبين أصحاب السوء فقال‏:‏ ‏{‏لهم‏}‏ أي ذلك الحمل ‏{‏يوم القيامة حملاً‏}‏ ثم شرح لهم بعض أحوال ذلك اليوم من ابتدائه، فقال مبدلاً من «يوم القيامة»‏:‏ ‏{‏يوم ينفخ‏}‏ أي بعظمتنا- على قراءة أبي عمرو بالنون مبنياً لفاعل، ودل على تناهي العظمة بطريقة كلام القادرين في قراءة الباقين بالياء مبنياً للمفعول ‏{‏في الصور‏}‏ فيقوم الموتى من القبور ‏{‏ونحشر‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏المجرمين‏}‏ منهم الذين قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وعدل عن أن يقول‏:‏ ونحشرهم- لبيان الوصف الذي جره لهم‏:‏ الإعراض عن الذكر ‏{‏يومئذ‏}‏ أي يوم القيامة، ويكون لهم ما تقدم ‏{‏زرقاً‏}‏ أي زرق العيون والجسوم على هيئة من ضرب فتغير جسمه، حال كونهم ‏{‏يتخافتون‏}‏‏.‏

ولما كان التخافت- وهو المسارّة بالكلام- قد يكون بين اثنين من قبيلتين، فيكون كل منهما خائفاً من قومه أقل عاراً مما لو كانا من قبيلة واحدة، لأنه يدل على أن ذلك الخوف طبع لازم، قال دالاً على لزومه وعمومه‏:‏ ‏{‏بينهم‏}‏ أي يتكلمون خافضي أصواتهم من الهيبة والجزع‏.‏

ولما كانت الزرقة أبغض ألوان العيون إلى العرب لعدم إلفهم لها، والمخافتة أبغض الأصوات إليهم لأنها تدل عندهم على سفول الهمة والجبن وكانوا من الزرقة أشد نفرة لأن المخافتة قد يتعلق بها غرض‏.‏ رتبهما سبحانه كذلك، ثم بين ما يتخافتون به فقال‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي يقول بعضهم لبعض‏:‏ ما ‏{‏لبثتم‏}‏ أي في الدنيا استقصاراً لمدة إقامتهم في غيب ما بدا لهم من المخاوف، أو غلطاً ودهشة ‏{‏إلا عشراً*‏}‏ أي عقداً واحداً، لم يزد على الآحاد إلا بواحد، وهو لو أنه سنون سن من لم يبلغ الحلم، فكيف إذا كان شهوراً أو أياماً فلم يعرفوا لذة العيش بأيّ تقدير كان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 108‏]‏

‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ‏(‏104‏)‏ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ‏(‏105‏)‏ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ‏(‏106‏)‏ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ‏(‏107‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ‏(‏108‏)‏‏}‏

ولما كان علم ما يأتي أخفى من علم ما سبق، أتى فيه بمظهر العظمة فقال‏:‏ ‏{‏نحن أعلم‏}‏ من كل أحد ‏{‏بما يقولون‏}‏ أي في ذلك اليوم ‏{‏إذ يقول أمثلهم طريقة‏}‏ في الدنيا فيما يحسبون، أي أقربهم إلى أن تكون طريقته مثل ما يطلب منه‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏لبثتم‏}‏ ودل على أن المعدود المحذوف من الأول الأيام بقوله‏:‏ ‏{‏إلا يوماً‏}‏ أي مبدأ الآحاد، لا مبدأ العقود كما قال في الاية الأخرى ‏{‏قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 113‏]‏ ‏{‏يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 55‏]‏ فلا يزالون في إفك وصرف عن الحق في الدارين، لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ويجوز أن يكون المراد أن من قال‏:‏ إن لبثهم يوم واحد، أمثلهم في نفس الأمر، لأن الزمان وإن طال إنما هو يوم متكرر، ليس مراداً لنفسه، وإنما هو مراد لما يكون فيه فإن كان خيراً كان صاحبه محموداً ولم يضره قصره، وإن كان شراً كان مذموماً ولم ينفعه طوله، ويجوز أن يكون أنث أولاً إرادة لليالي، لأنها محل الراحة المقصودة بالذات، فكان كأنهم قالوا‏:‏ لم يكن لنا راحة إلا بزمن يسير جداً أكثر أول العقود، ونص الأمثل على اليوم الذي يكون الكد فيه للراحة في الليل إشارة إلى أنهم ما كان لهم في اللبث في الدنيا راحة أصلاً، ولم يكن سعيهم إلا نكداً كله كما يكون السعي في يوم لا ليلة يستراح فيها‏.‏ وإن كانت فيه راحة فهي ضمنية لا أصلية‏.‏

ولما أخبر عن بعض ما سبق ثم عن بعض ما يأتي من أحوال المعرضين عن هذا الذكر فيما ينتجه لهم إعراضهم عنه، وختم ذلك باستقصارهم مدة لبثم في هذه الدار، أخبر عن بعض أحوالهم في الإعراض فقال‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الجبال‏}‏ ما يكون حالها يوم يتفخ في الصور‏؟‏ شكا منهم في البعث وقوفاً مع الوهم في أنها تكون موجودة على قياس جمودهم لا محالة، لأنها أشد الأشياء قوة، وأطولها لبثاً، وأبعدها مكثاً، فتمنع بعض الناس من سماع النفخ في الصور، وتخيل للبعض بحكم رجع الهواء الحامل للصوت أنه آتٍ من غير جهته فلا يستقيم القصد إلى الداعي ‏{‏فقل‏}‏ أي فتسبب عن علمنا بأنهم يسألونك هذا السؤال أنا نقول لك‏:‏ قل، أو يكون على تقدير شرط، أي فإذا سألوك فقل لهم، وهذا بخلاف ما نزل بعد وقوع السؤال عنه مثل الروح وقصة ذي القرنين فإن الأمر بجوابه على طريق الاستئناف لما هناك من استشراف النفس للجواب ‏{‏ينسفها‏}‏ أي يقلعها من أماكنها ويذريها بالهواء ‏{‏ربي‏}‏ المحسن إليّ بنصري في يوم القيامة نصراً لا يبلغ كنهه ‏{‏نسفاً‏}‏ عند النفخة الأولى ‏{‏فيذرها‏}‏ أي أماكنها ‏{‏قاعاً‏}‏ أي أرضاً ملساء ‏{‏صفصفاً*‏}‏ أي مستوياً كأنه صف واحد لا اثر للجبال فيه ‏{‏لا ترى‏}‏ أي بالبصر ولا بالبصيرة ‏{‏فيها‏}‏ أي مواضع الجبال ‏{‏عوجاً‏}‏ بوجه من الوجوه، وعبر هنا بالكسر هو للمعاني، ولم يعبر بالفتح الذي يوصف به الأعيان، ومواضع الجبال أعيان لا معاني، نفياً للاعوجاج على أبلغ وجه، بمعنى أنك لو جمعت أهل الخبرة بتسوية الأراضي لا تفقوا على الحكم باستوائها، ثم لو جمعت أهل الهندسة فحكموا مقاييسهم العلمية فيها لحكموا بمثل ذلك ‏{‏ولا أمتاً*‏}‏ أي شيئاً مرتفعاً كالكدية أو نتوّاً يسيراً أو شقاً أو اختلافاً؛ وقال البيضاوي والزمخشري‏:‏ الأمت النتوّ اليسير، قال الغزالي في الدرة الفاخرة‏:‏ ينفخ في الصور فتطاير الجبال، وتفجر الأنهار بعضها في بعض، فيمتلئ عالم الهواء ماء، وتنتثر الكواكب وتتغير السماء والأرض، ويموت العالمون فتخلو الأرض والسماء؛ قال‏:‏ ثم يكشف سبحانه عن بيت في سقر فيخرج لهيب النار فيشتعل في البحور فتنشف، ويدع الأرض جمرة سوداء، والسماوات كأنها عكر الزيت والنحاس المذاب، ثم يفتح تعالى خزانة من خزائن العرش فيها بحر الحياة، فيمطر به الأرض، وهو كمنيّ الرجال فتنبت الأجسام على هيئتها، الصبى صبي، والشيخ شيخ، وما بينهما، ثم تهب من تحت العرش نار لطيفة فتبرز الأرض ليس فيها جبل ولا عوج ولا أمت، ثم يحيى الله إسرافيل فينفخ في الصور من صخرة القدس، فتخرج الأرواح من ثقب في الصور بعددها كل روح إلى جسدها حتى الوحش والطير فإذا هم بالساهرة‏.‏

ولما أخبر سبحانه بنزول ما يكون منه العوج في الصوت قال‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ أي إذ ينفخ في الصور فتنسف الجبال ‏{‏يتبعون‏}‏ أي أهل المحشر بغاية جهدهم ‏{‏الداعي‏}‏ أي بالنفخ منتصبين إليه على الاستقامة ‏{‏لا عوج له‏}‏ أي الداعي في شيء من قصدهم إليه، لأنه ليس في الأرض ما يحوجهم إلى التعريج ولا يمنع الصوت من النفوذ على السواء؛ وقال أبو حيان‏:‏ أي لا عوج لدعائه، بل يسمع جميعهم فلا يميل إلى ناس دون ناس‏.‏

ولما أخبر بخشوعهم في الحديث والانقياد للدعوة، أخبر بخشوع غير ذلك من الأصوات التي جرت العادة بكونها عن الاجتماع فقال‏:‏ ‏{‏وخشعت الأصوات‏}‏ أي ارتخت وخفيت وخفضت وتطامنت لخشوع أهلها ‏{‏للرحمن‏}‏ أي الذي عمت نعمه، فيرجى كرمه، ويخشى نقمه ‏{‏فلا‏}‏ أي فيتسبب عن رخاوتها أنك ‏{‏تسمع إلا همساً*‏}‏ أخفى ما يكون من الأصوات، وقيل‏:‏ أخفى شيء من أصوات الأقدام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 112‏]‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ‏(‏109‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ‏(‏110‏)‏ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ‏(‏112‏)‏‏}‏

ولما تقرر ما للأصوات من الانخفات، وكان قد أشير فيما مضى إلى وقوع الشفاعة من بعض أخصائه بإذنه، وكان الحشر للحساب بمعرض التقريب لبعض والتبعيد لبعض، وكانت العادة جارية بأن المقرب يشفع للمبعد، لما بين أهل الجمع من الوصل والأسباب المقتضية لذلك، وكان الكفار يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم قال نافياً لأن تقع شفاعة بغير إذنه، معظماً ذلك اليوم بالإنذار منه مرة بعد مرة‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ أي إذ كان ما تقدم ‏{‏لا تنفع الشفاعة‏}‏ أي لا تكون شفاعة ليكون لها نفع، لأنه قد ثبت بما مضى أنه لا صوت، وتقرر في تحقيق المحصورات من علم الميزان أن السالبة الحقيقية لا تستدعي وجود الموضوع في الخارج، وإنما حول العبارة لأن المقصود بالذات النفع، فنفيه بادئ بدا أفظع، وقرع السمع به أولاً أهول وأفزع ‏{‏إلا‏}‏ أي إلا شفاعة ‏{‏من أذن له الرحمن‏}‏ العام النعمة ‏{‏ورضي له قولاً*‏}‏ ولو الإيمان المجرد‏.‏

ولما نفي أن تقع الشفاعة بغير إذنه، علل ذلك- كما سلف في آية الكرسي- بقوله‏:‏ ‏{‏يعلم ما بين أيديهم‏}‏ أي الخلائق وهو كل ما يعلمونه ‏{‏وما خلفهم‏}‏ وهو كل ما غاب عنهم علمه، أي علمه سبحانه محيط بهم، فهو يمنع قلوبهم في ذلك اليوم بما يوجد من الأسباب أن تهم بما لا يرضاه ‏{‏ولا يحيطون به علماً*‏}‏ ليحترزوا عما يقدره عليهم، و‏{‏علماً‏}‏ تمييز منقول من الفاعل، أي ولا يحيط علمهم به- قال أبو حيان‏.‏ والأقرب عندي كونه منقولاً عن المفعول الذي تعدى إليه الفعل بحرف الجر، أي ولا يحيطون بعلمه، فيكون ذلك أقرب إلى ما في آية الكرسي‏.‏ ولما ذكر خشوع الأصوات، أتبعه خضوع دونها فقال‏:‏ ‏{‏وعنت الوجوه‏}‏ أي ذلت وخضعت واستسلمت وجوه الخلائق كلهم، وخصها لشرفها ولأنها أول ما يظهر فيه الذل ‏{‏للحي‏}‏ الذي هو مطلع على الدقائق والجلائل، وكل ما سواه جماد حيث ما نسبت حياته إلى حياته ‏{‏القيوم‏}‏ الذي لا يغفل عن التدبير ومجازاة كل نفس بما كسبت ‏{‏وقد خاب‏}‏ أي خسر خسارة ظاهرة ‏{‏من حمل‏}‏ منهم أو من غيرهم ‏{‏ظلماً*‏}‏‏.‏

ولما ذكر الظالم، أتبعه الحكيم فقال‏:‏ ‏{‏ومن يعمل‏}‏ ولما كان الإنسان محل العجز وإن اجتهد، قال ‏{‏من الصالحات‏}‏ أي التي أمره الله بها بحسب استطاعته، لأنه «لن يقدر الله أحد حق قدره» «ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» ‏{‏وهو مؤمن‏}‏ ليكون بناؤها على الأساس، وعبر بالفاء إشارة إلى قبول الأعمال وجعلها سبباً لذلك الحال فقال‏:‏ ‏{‏فلا يخاف ظلماً‏}‏ بأن ينسب إليه سوء لم يقترفه لأن الجزاء من جنس العمل، وقراءة ابن كثير بلفظ النهي محققة للمبالغة في النفي ‏{‏ولا هضماً‏}‏ أي نقصاً من جزائه وإن كان هو لم يوف المقام حقه لأنه لا يستطيع ذلك، وأصل الهضم الكسر، وأما غير المؤمن فلو عمل أمثال الجبال من الأعمال لم يكن لها وزر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 115‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ‏(‏113‏)‏ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ‏(‏114‏)‏ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ‏(‏115‏)‏‏}‏

ولما اشتملت هذه الآية على الذروة من حسن المعاني، فبشرت ويسرت، وأنذرت وحذرت، وبينت الخفايا، وأظهرت الخبايا، مع ما لها من جلالة السبك وبراعة النظم، كان كأنه قيل تنبيهاً على جلالتها‏:‏ أنزلناها على هذا المنوال العزيز المثال ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل هذا الإنزال ‏{‏أنزلناه‏}‏ أي هذا الذكر كله بعظمتنا ‏{‏قرآناً‏}‏ جامعاً لجميع المعاني المقصودة ‏{‏عربياً‏}‏ مبيناً لما أودع فيه لكل من له ذوق في أساليب العرب‏.‏

ولما كان أكثر هذه الآيات محذراً، قال‏:‏ ‏{‏وصرفنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏فيه من الوعيد‏}‏ أي ذكرناه مكررين له محولاً في أساليب مختلفة، وأفانين متنوعة مؤتلفة‏.‏

ولما ذكر الوعيد، أتبعه ثمرته فقال‏:‏ ‏{‏لعلهم يتقون‏}‏ أي ليكون الناظر لهم بعد ذلك على رجاء من أن يتقوا ويكونوا به في عداد من يجدد التقوى كل حين، بأن تكون له وصفاً مستمراً، وهي الحذر الحامل على اتخاذ الوقاية مما يحذر ‏{‏أو‏}‏ في عداد من ‏{‏يحدث‏}‏ أي يجدد هذا التصريف ‏{‏لهم ذكراً*‏}‏ أي ما يستحق أن يذكر من طرق الخير، فيكون سبباً للخوف الحامل على التقوى، فيردهم عن بعض ما تدعو إليه النفوس من النقائض والبؤس‏.‏

ولما بلغت هذه الجمل نهاية الإعجاز، فاشتملت على غاية الحكمة، دالة على أن لقائلها تمام العلم والقدرة والعدل في أحوال الدراين، تسبب عن سوقها كذلك أن بان له من العظمة ما أفهمه قوله، معظماً لنفسه الأقدس بما هو له أهل بعد تعظيم كتابه تعليماً لعباده ما يجب له من الحق دالاً بصيغة التفاعل على مزيد العلو‏:‏ ‏{‏فتعالى الله‏}‏ أي بلغ الذي لا يبلغ الواصفون وصفه حق وصفه من العلو أمراً لاتحتمله العقول، فلا يلحقه شيء من إلحاد الملحدين ووصف المشركين ‏{‏الملك‏}‏ الذي لا يعجزه شيء، فلا ملك في الحقيقة غيره ‏{‏الحق‏}‏ أي الثابت الملك، فلا زوال لكونه ملكاً في زمن ما؛ ولعظمة ملكه وحقية ذاته وصفاته صرف خلقه على ما هم عليه من الأمور المتباينة‏.‏

ولما كانت هذه الآيات في ذم من أعرض عن هذا الذكر، كان تقدير‏:‏ فلا تعرض عنه، بل أقبل عليه لتكون من المتقين الذاكرين، ولما كان هذا الحث العظيم ربما اقتضى للمسابق في التقوى المبالغة في المبادرة إليه فيستعجل بتلقفه قبل الفراغ من إيحائه، قال عاطفاً على هذا المقدر‏:‏ ‏{‏ولا تعجل بالقرآن‏}‏ أي بتلاوته‏.‏

ولما كان النهي عاماً لجميع الأوقات القبلية، دل عليه بالجار لئلا يظن أنه خاص بما يستغرق زمان القبل جملة واحدة فقال‏:‏ ‏{‏من قبل أن‏}‏ ولما كان النظر هنا إلى فراغ الإيحاء لا إلى موح معين، بنى للمجهول قوله‏:‏ ‏{‏يقضى‏}‏ أي ينهى ‏{‏إليك وحيه‏}‏ من الملك النازل إليك من حضرتنا به كما أنا لم نعجل بإنزاله عليك جملة، بل رتلناه لك ترتيلاً، ونزلناه إليك تنزيلاً مفصلاً تفصيلاً، وموصلاً توصيلاً- كما أشرنا إليه أول السورة، فاستمع له ملقياً جميع تأملك إليه ولا تساوقه بالقراءة، فإذا فرغ فاقرأه فإنا نجمعه في قلبك ولا نسقيك بإنسائه وأنت مصغ إليه، ولا بتكليفك للمساوقة بتلاوته ‏{‏وقل رب‏}‏ أي المحسن إليّ بإفاضة العلوم عليّ ‏{‏زدني علماً*‏}‏ أي بتفهيم ما أنزلت إليّ منه وإنزال غيره كما زدتني بإنزاله وتحفيظه، لتتمكن من معرفة الأسباب المفيدة لتبع الخلق لك، فإنه كما تقدم على قدر إحاطة العلم يكون شمول القدرة، وفي هذا دليل على أن التأني في العلم بالتدبر وبإلقاء السمع أنفع من الاستعجال المتعب للبال المكدر للحال، وأعون على الحفظ، فمن وعى شيئاً حق الوعي حفظه غاية الحفظ؛ وروى الترمذي وابن ماجة والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

«اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار» أفاده ابن كثير في تفسيره‏.‏

ولما قرر سبحانه بقصة موسى عليه السلام ما أشار إليه أول السورة بما هو عليه من الحلم والتأني على عباده، والإمهال لهم فيما هم عليه من النقص بالنسيان للعهود والنقض للمواثيق، وأتبعها ذكر مدح هذا الذكر الذي تأدت إلينا به، وذم من أعرض عنه، وختمه بما عهد إليه صلى الله عليه وسلم في أمره نهياً وأمراً، أتبع ذلك سبحانه قصة آدم عليه السلام تحذيراً من الركون إلى ما يسبب النسيان، وحثاً على رجوع من نسي إلى طاعة الرحمن، وبياناً لأن ذلك الذي قرره من حلمه وإمهاله عادته سبحانه من القدم، وصفته التي كانت ونحن في حيز العدم، وأنه جبل الإنسان على النقص، فلو أخذهم بذنوبهم ما ترك عليها من دابة، فقال عاطفاً على قوله ‏{‏وكذلك أنزلناه حكماً عربياً‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 37‏]‏ أو ‏{‏كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق‏}‏ مؤكداً لما تقدم فيه وعهد به من أمر القرآن، ومحذراً من الإخلال بذلك ولو على وجه النسيان، ومنجزاً لما وعد به من قص أنباء المتقدمين مما يوافق هذا السياق‏:‏ ‏{‏ولقد عهدنا‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏إلى آدم‏}‏ أبي البشر الذي أطلعناه على كثير منها في النهي عن الأكل من الشجرة ‏{‏من قبل‏}‏ أي في زمن من الأزمان الماضية قبل هؤلاء الذين تقدم في هذه السورة ذكر نسيانهم وإعراضهم ‏{‏فنسي‏}‏ عهدنا وأكل منها مع علمه من تلك العظمة بما لا ينبغي أن ينسى معه ذلك العهد المؤكد بذلك الجلال، فعددنا عليه وقوعه في ذلك المنهيّ ناسياً ذنباً لعلو رتبته عندنا، فهو من باب «حسنات الأبرار سيئات المقربين» فكيف بما فوق ذلك‏!‏ ‏{‏ولم نجد‏}‏ بالنظر إلى ما لنا من العظمة ‏{‏له عزماً*‏}‏ أي قصداً صلباً ماضياً وإرادة نافذة لا تردد فيها كإرادات الملائكة عليهم السلام، والمعنى أنه لم يتعلق علمنا بذلك موجوداً، ومع ذلك عفونا عنه ولم نزحزحه عن رتبة الاصطفاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 122‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ‏(‏116‏)‏ فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ‏(‏117‏)‏ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ‏(‏118‏)‏ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ‏(‏119‏)‏ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ‏(‏120‏)‏ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ‏(‏121‏)‏ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ‏(‏122‏)‏‏}‏

ولما كان المقصود من السورة- كما سلف- الإعلام بالحلم والأناة والتلطف بالنائي والقدرة على المعرض، ذكر فعله آدم عليه السلام هذه في هذه السورة بلفظ المعصية مع التصريح بأنها على وجه النسيان، وذكر ذلك أولاً مجملاً ثم أتبعه تفصيله ليكون ذلك مذكوراً مرتين، تأكيداً للمعنى المشار إليه، تقريراً وتحذيراً من الوقوع في منهيّ، وإرشاداً لمن «غلب عليه» طبع النقص إلى المباردة إلى الندم وتعاطي أسباب التوبة ليتوب الله عليه ما فعل بآدم عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏وإذ‏}‏ أي اذكر هذا واذكر حين ‏{‏قلنا‏}‏ بما لنا من العظمة، أي اذكر قولنا في ذلك الوقت ‏{‏للملائكة‏}‏ أي المجبولين على مضي العزم والتصميم على القصد من غير مانع تردد ولا عائق فتور ‏{‏اسجدوا لآدم‏}‏ الذي خلقته بيدي، فلم نأمرهم بذلك إلا بعد أن اصطفيناه ونحن عالمون بما سيقع منه، وأنه لا يقدح في رتبة اصطفائه، فإن الحلم والكرم من صفاتنا، والرحمة من شأننا، فلا تيأس من عودنا بالفضل والرحمة على من بالغ في مقاطعتنا من قومك الذين وصفناهم باللدد ‏{‏فسجدوا‏}‏ أي الملائكة ‏{‏إلا إبليس‏}‏ الذي نسب الله إلى الجور والإخلال بالحكمة فكفر فأيس من الرحمة وسلب الخير فأصر على إضلال الخلق بالتلبيس، فكأنه قيل‏:‏ ما كان من حاله في عدم سجوده‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏أبى*‏}‏ أي تكبر على آدم فعصى أمر الله ‏{‏فقلنا‏}‏ بسبب ذلك بعد أن حلمنا عنه ولم نعاجله بالعقوبة‏:‏ ‏{‏يا آدم إن هذا‏}‏ الشيطان الذي تكبر عليك ‏{‏عدو لك‏}‏ دائماً لأن الكبر الناشئ عن الحسد لا يزول ‏{‏ولزوجك‏}‏ لأنها منك ‏{‏فلا يخرجنكما‏}‏ أي لا تصغيا إليه بوجه فيخرجكما، ووجه النهي إليه والمراد‏:‏ هما، تنبيهاً على أن لها من الجلالة ما ينبغي أن تصان عن أن يتوجه إليها نهي، وأسند الإخراج إليه لزيادة التحذير والإبلاغ في التنفير، وزاد في التنبيه بقوله‏:‏ ‏{‏من الجنة‏}‏ أي فإنه لا يقصر في ضركما وإرادة إنزالكما عنها‏.‏

ولما نص سبحانه على شركتها له في الإخراج فكان من المعلوم شركتها له في آثاره، وكانت المرأة تابعة للرجل، فكان هو المخصوص في هذه الدار بالكل في الكد والسعي، والذب والرعي، وكان أغلب تعبه في أمر المرأة، أفرد بالتحذير من التعب لذلك وعدّاً لتعبها بالنسبة إلى تعبه عدماً، وتعريفاً بأن أمرها بيده، وهو إن تصلب قادها إلى الخير، وإلا قادته إلى الضير، وعبر عن التعب بالشقاء زيادة في التحذير منه فقال‏:‏ ‏{‏فتشقى‏}‏ أي فتتعب، ولم يرد شقاوة الآخر، لأنه لو أرادها ما دخل الجنة بعد ذلك، لأن الكلام المقدر بعد الفاء خبر، والخبر لا يخلف‏.‏ ثم علل شقاوته على تقدير الإخراج بوصفها بما لا يوجد في غيرها من الأقطاب التي يدور علها كفاف الإنسان، وهي الشبع والريّ والكسوة والكن‏.‏

ذاكراً لها بلفظ النفي لنقائضها ليطرق سمعه بأسماء أصناف الشقوة التي حذره منها ليصير بحيث يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها، فإذا مضت عليه القدرة الباهرة علم أنه لا يغني حذر من قدر، فقال‏:‏ ‏{‏إن لك‏}‏ أي علينا ‏{‏ألا تجوع فيها‏}‏ أي يوماً ما ‏{‏ولا تعرى*‏}‏ فلا يتجرد باطنك ولا ظاهرك ‏{‏وأنك لا تظمؤا‏}‏ بالتهاب القلب ‏{‏فيها ولا تضحى*‏}‏ أي لا يكون بحيث يصيبك حر الشمس، والمعنى أنه لا يصيبك حر في الباطن ولا في الظاهر ‏{‏فوسوس‏}‏ أي فتعقب تحذيرنا هذا من غير بعد في الزمان أن وسوس ‏{‏إليه الشيطان‏}‏ المحترق المطرود، وهو إبليس، أي ألقى إليه وجه الخفاء بما مكناه من الجري في هذا النوع مجرى الدم، وقذف المعاني في قلبه، وكأنه عبر ب «إلى»، لأن المقام لبيان سرعة قبول هذا النوع للنقائص وإن أتته من بعد، أو لأنه ما أنهى إليه ذلك إلا بواسطة زوجه، لذلك عدى الفعل عند ذكرهما بالام، وكأنه قيل‏:‏ ما دس إليه‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال يا آدم‏}‏ ثم ساق له الغش مساق العرض، إبعاداً لنفسه من التهمة والغرض؛ وشوقه إليه أولاً بقوله‏:‏ ‏{‏هل أدلك‏}‏ فإن النفس شديدة الطلب لعلم ما تجهله؛ وثانياً بقوله‏:‏ ‏{‏على شجرة الخلد‏}‏ أي التي من أكل منها خلد، فإن الإنسان أحب شيء في طول البقاء؛ وثالثاً بقوله‏:‏ ‏{‏وملك لا يبلى*‏}‏ أي لا يخلق أصلاً، فكأنه قال له بلسان الحال أو القال‏:‏ نعم، فقال‏:‏ شجرة الخلد هذه- مشيراً إلى التي نهي عنها- ما بينك وبين الملك الدائم إلا أن تأكل منها‏.‏

‏{‏فأكلا‏}‏ أي فتسبب عن قوله وتعقب أن أكل ‏{‏منها‏}‏ هو وزوجه، متبعين لقوله ناسيين ما عهد إليهما ‏{‏فبدت لهما‏}‏ لما خرقا من ستر النهي وحرمته ‏{‏سوءاتهما‏}‏ وقوعاً لما حذرا منه من إخراجهما مما كانا فيه ‏{‏وطفقا‏}‏ أي شرعا ‏{‏يخصفان‏}‏ أي يخيطان أو يلصقان ‏{‏عليهما من ورق الجنة‏}‏ ليسترا عوراتهما ‏{‏وعصى آدم‏}‏ وإن كان إنما فعل المنهي نسياناً، لأن عظم مقامه وعلو رتبته يقتضيان له مزيد الاعتناء ودوام المراقبة مع ربط الجأش ويقظة الفكر ‏{‏ربه‏}‏ أي المحسن إليه بما لم ينله أحداً من بنيه من تصويره له بيده وإسجاد ملائكته له ومعاداة من عاداه ‏{‏فغوى*‏}‏ من الغواية وهي الضلال، ولذلك قالوا‏:‏ المعنى‏:‏ فضلّ عن طريق السداد، فأخطأ طريق التوصل إلى الخلد بمخالفة أمره، وهو صفيه، لم ينزله عن رتبة الاصطفاء، لأن رحمته واسعة، وحلمه عظيم، وعفوه شامل، فلا يهمنك أمر القوم اللد، فإنا قادرون على أن نقبل بقلوب من شئنا منهم فنجعلهم من أصفى الأصفياء، ونخرج من أصلاب من شئنا منهم من نجعل قلبه معدن الحكمة والعلم‏.‏

ولما كان الرضى عنه- مع هذا الفعل الذي أسرع فيه اتباع العدو وعصيان الولي بشيء لا حاجة به إليه- مستبعداً جداً، أثبت ذلك تعالى مشيراً إليه بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم اجتباه ربه‏}‏ أي المحسن إليه ‏{‏فتاب عليه‏}‏ أي بسبب الاجتباء بالرجوع إلى ما كان عليه من طريق السداد ‏{‏وهدى*‏}‏ بالحفظ في ذلك كما هو الشأن في أهل الولاية والقرب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 127‏]‏

‏{‏قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ‏(‏123‏)‏ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ‏(‏124‏)‏ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ‏(‏125‏)‏ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ‏(‏126‏)‏ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ‏(‏127‏)‏‏}‏

ولما كانت دور الملوك لا تحتمل مثل ذلك، وكان قد قدم سبحانه عنايته بآدم عليه السلام اهتماماً به، وكان الخبر عن زوجه وعن إبليس لم يذكر، فكانت نفس السامع لم تسكن عن تشوفها إلى سماع بقية الخبر، أجاب عن ذلك بأنه أهبط من داره المقدسة الحامل على المخالفة والمحمول وإن كان قد هيأه بالاجتباء لها، فقال على طريق الاستئناف‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي الرب الذي انتهكت حرمة داره‏:‏ ‏{‏اهبطا منها‏}‏ أيها الفريقان‏:‏ آدم وتبعه، وإبليس ‏{‏جميعاً‏}‏‏.‏

ولما كان السياق لوقوع النسيان وانحلال العزم بعد أكيد العهد، حرك العزم وبعث الهم بإيقاع العداوة التي تنشأ عنها المغالبة، فتبعث الهمم وتثير العزائم، فقال في جواب من كأنه قال‏:‏ على أيّ حال يكون الهبوط‏:‏ ‏{‏بعضكم لبعض عدو‏}‏ وهو صادق بعداوة كل من الفريقين للفريق الآخر‏:‏ فريق إبليس- الذين هم الجن- بالإضلال، وفريق الإنس بالاحتراز منهم بالتعاويذ والرقى وغير ذلك، وبعداوة بعض كل فريق لبعضه ‏{‏فإما‏}‏ أي فتسبب عن ذلك العلم بأنه لا قدرة لأحد منكم على التحرز من عدوه إلا بي ولا حرز لكم من قبلي إلا اتباع أمري، فإما ‏{‏يأتينكم‏}‏ أي أيها الجماعة الذين هم أضلّ ذوي الشهوات من المكلفين ‏{‏مني هدى‏}‏ تحترزون به عن استهواء العدو واستزلاله ‏{‏فمن اتبع‏}‏ عبر بصيغة «افتعل» التي فيها تكلف وتتميم للتبع الناشئ عن شدة الاهتمام ‏{‏هداي‏}‏ الذي أسعفته به من أوامر الكتاب والرسول المؤيد بدلالة العقل، وللتعبير بصيغة «افتعل» قال‏:‏ ‏{‏فلا يضل‏}‏ أي بسبب ذلك، عن طريق السداد في الدنيا ولا في الآخرة أصلاً ‏{‏ولا يشقى*‏}‏ أي في شيء من سعيه في واحدة منهما، فإن الشقاء عقاب الضلال، ويلزم من نفيه نفي الخوف والحزن بخلاف العكس، فهو أبلغ مما في البقرة، فإن المدعو إليه في تلك مطلق العبادة، والمقام في هذه للخشية والبعث على الجد بالعداوة ‏{‏إلا تذكرة لمن يخشى‏}‏ وللإقبال على الذكر ‏{‏من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً‏}‏ والتحفظ من المخالفة ولو بالنسيان ‏{‏فنسي ولم نجد له عزماً‏}‏‏.‏ قال الرازي في اللوامع‏:‏ والشقاء‏:‏ فراق العبد من الله، والسعادة وصوله إليه؛ وقال الأصبهاني عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ضمن الله عز وجل لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ‏{‏ومن أعرض‏}‏ أي فعل دون فعل الرضيع بتعمد الترك لما ينفعه بالمجاورة ‏{‏عن ذكري‏}‏ الذي هو الهدى ‏{‏فإن له‏}‏ ضد ذلك ‏{‏معيشة‏}‏ حقرها سبحانه بالتأنيث ثم وصفها بأفظع وصف وهو مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع وغيره فقال‏:‏ ‏{‏ضنكاً‏}‏ أي ذات ضنك أي ضيق، لكونه على ضلال وإن رأى أن حاله على غير ذلك في السعة والراحة، فإن ضلاله لا بد أن يرديه، فهو ضنك لكونه سبباً للضيق وآئلاً إليه، من تسمية السبب باسم المسبب، مع أن المعرض عن الله لا يشبع ولا يضل إلى أن يقنع، مستولٍ عليه الحرص الذي لا يزال أن يطيح ببال من يريد الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الانفاق، عن مناوأة الخصوم، وتعاقب الهموم، مع أنه لا يرجو ثواباً، ولا يأمن عقاباً، فهو لذلك في أضيق الضيق، لا يزال همه أكبر من وجده

«لو كان لابن آدم واد من ذهب لابتغى إليه ثانياً، ولو أن له واديين لا بتغى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» متفق عليه عن أنس رضي الله عنه، وهكذا حال من أتبع نفسه هواها، وأما المقبل على الذكر بكليته فهو قانع راض بما هو فيه، مستكثر من ذكر الله الشارح للصدور الجالي للقلوب فهو أوسع سعة، فلا تغتر بالصور وانظر إلى المعاني‏.‏

ولما ذكر حاله في الدنيا، أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏ونحشره يوم القيامة أعمى*‏}‏ وكان ذلك في بعض أوقات ذلك اليوم، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إذا خرج من القبر خرج بصيراً، فإذا سيق إلى المحشر عمي، أو يكون ذلك- وهو أقرب مفهوم العبارة- في بعض أهل الضلال ليجتمع مع قوله ‏{‏أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 38‏]‏ وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيح من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الظلم ظلمات يوم القيامة» ثم استأنف قوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ مذكراً بالنعمة السابقة استعطافاً لأن من شأن مسلف نعمة أن يربيها وإن قصر المنعم عليه، وغاية ذلك إنما يكون مهما بقي للصلح موضع‏:‏ ‏{‏رب‏}‏ أي أيها المحسن إليّ المسبغ نعمه عليّ ‏{‏لم حشرتني‏}‏ في هذا اليوم ‏{‏أعمى وقد كنت‏}‏ أي في الدنيا، أو في أول هذا اليوم ‏{‏بصيراً*‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ بم أجيب‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ له ربه‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا الفعل الشنيع فعلت في الدنيا، والمعنى‏:‏ مثل ما قلت كان؛ ثم فسر على الأول، وعلل على الثاني، فقال‏:‏ ‏{‏أتتك آياتنا‏}‏ على عظمتها التي هي من عظمتنا ‏{‏فنسيتها‏}‏ أي فعاملتها بإعراضك عنها معامله المنسي الذي لا يبصره صاحبه، فقد جعلت نفسك أعمى البصر والبصيرة عنها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 101‏]‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل ذلك النسيان الفظيع، وقدم الظرف ليسد سوقه للمظروف ويعظم اختباره لفهمه فقال‏:‏ ‏{‏اليوم تنسى*‏}‏ أي تترك على ما أنت عليه بالعمى والشقاء بالنار، فتكون كالشيء الذي لا يبصره أحد ولا يلتفت إليه ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل ذلك الجزاء الشديد ‏{‏نجزي من أسرف‏}‏ في متابعة هواه فتكبر عن متابعة أوامرنا ‏{‏ولم يؤمن بآيات ربه‏}‏ فكفر إحسانه إما بالتكذيب وإما بفعله فعل المكذب‏.‏

ولما ذكر أن هذا الضال كان في الدنيا معذباً بالضنك، وذكر بعض ما له في الآخرة، قال مقسماً لما له من التكذيب‏:‏ ‏{‏ولعذاب الآخرة‏}‏ بأيّ نوع كان ‏{‏أشد‏}‏ من عذاب الدنيا ‏{‏وأبقى*‏}‏ منه، فإن الدنيا دار زوال، وموضع قلعة وارتحال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 135‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏128‏)‏ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ‏(‏129‏)‏ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ‏(‏130‏)‏ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏131‏)‏ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ‏(‏132‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏133‏)‏ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ‏(‏134‏)‏ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ‏(‏135‏)‏‏}‏

ولما كان ما مضى من هذه السورة وما قبلها من ذكر مصارع الأقدمين، وأحاديث المكذبين، بسبب العصيان على الرسل، سبباً عظيماً للاستبصار والبيان، كانوا أهلاً لأن ينكر عليهم لزومهم لعماهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أفلم يهد‏}‏ أي يبين ‏{‏لهم كم أهلكنا قبلهم‏}‏ اي كثرة إهلاكنا لمن تقدمهم ‏{‏من القرون‏}‏ بتكذيبهم لرسلنا، حال كونهم ‏{‏يمشون في مساكنهم‏}‏ ويعرفون خبرهم بالتوارث خلفاً عن سلف أنا ننصر أولياءنا ونهلك أعدائنا ونفعل ما شئنا‏!‏ والأحسن أن لا يقدر مفعول، ويكون المعنى‏:‏ أو لم يقع لهم البيان الهادي، ويكون ما بعده استئنافاً عيناً كما وقع البيان بقوله استئنافاً‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الإهلاك العظيم الشأن المتوالي في كل أمة ‏{‏لآيات‏}‏ عظيمات البيان ‏{‏لأولي النهى*‏}‏ أي العقول التي من شأنها النهي عما لا ينفع فضلاً عما يضر، فإنها تدل بتواليها على قدرة الفاعل، وبتخصيص الكافر بالهلاك والمؤمن بالنجاة على تمام العلم مع عموم القدرة، وعلى أنه تعالى لا يقر على الفساد وإن أمهل- إلى غير ذلك ممن له وازع من عقله‏.‏

ولما هددهم بإهلاك الماضين، ذكر سبب التأخير عنهم، عاطفاً على ما أرشد إلى تقديره السياق، وهو مثل أن يقال‏:‏ فلو أراد سبحانه لعجل عذابهم‏:‏ ‏{‏ولولا كلمة‏}‏ أي عظيمة ماضية نافذة ‏{‏سبقت‏}‏ أي في الأزل ‏{‏من ربك‏}‏ الذي عودك بالإحسان بأنه يعامل بالحلم والأناة، وأنه لا يستأصل مكذبيك، بل يمد لهم، ليرد من شاء منهم ويخرج من أصلاب بعضهم من يعبده، وإنما ذلك إكراماً لك رحمة لأمتك لأنا كما قلنا أول السورة ‏{‏ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى‏}‏ بإهلاكهم وإن كانوا قوماً لداً، ولا بغير ذلك، وما أنزلناه إلا لتكثر أتباعك، فيعملوا الخيرات، فيكون ذلك زيادة في شرفك، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم «وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً» ‏{‏لكان‏}‏ أي العذاب ‏{‏لزاماً‏}‏ أي لازماً أعظم لزوم لكل من أذنب عند أول ذنب يقع منه لشرفك عنده وقربك لديه ‏{‏و‏}‏ لولا ‏{‏أجل مسمى*‏}‏ ضربه لكل شيء لكان الأمر كذلك أيضاً، لكنه سبقت رحمته غضبه فهو لا يعجل، وضرب الأجل فهو لا يأخذ قبله، وكل من سبق الكلمة وتسمية الأجل مستقل بالإمهال فكيف إذا اجتمعا، فتسبب عن العلم بأنه لا بد من استيفاء الأجل وإن زاد العاصي في العصيان تسليم الأمور إلى الله وعدم القلق في انتظار الفرج فقال‏:‏ ‏{‏فاصبر على ما يقولون‏}‏ لك من الاستهزاء وغيره‏.‏

ولما كان الصبر شديداً على النفس منافراً للطبع، لأن النفس مجبولة على النقائص، مشحونة بالوسواس، أمر منه لأجل من يحتاج إلى الكمال بما ينهض بها من حضيض الجسم إلى أوج الروح بمقامي التحلي بالكمالات والتخلي عن الرعونات، وبدأ بالأول لأنه العون على الثاني، وذكر أشرف الحلي فقال‏:‏ ‏{‏وسبح بحمد ربك‏}‏ أي اشتغل بما ينجيك من عذابه، ويقربك من جنابه، بأن تنزه من أحسن إليك عن كل نفص، حال كونك حامداً له بإثبات كل كمال، وذلك بأن تصلي له خاصة وتذكره بالذاكرين، غير ملتفت إلى شيء سواه ‏{‏قبل طلوع الشمس‏}‏ صلاة الصبح ‏{‏وقبل غروبها‏}‏ صلاة العصر والظهر؛ وغير السياق في قوله‏:‏ ‏{‏ومن آناء الّيل‏}‏ أي ساعاته، جمع إنو- بكسر ثم سكون، أي ساعة، لأن العبادة حينئذ أفضل لاجتماع القلب وهدوء الرجل والخلو بالرب، لأن العبادة إذ ذاك أشق وأدخل في التكليف فكانت أفضل عند الله ‏{‏فسبح‏}‏ أي بصلاة المغرب والعشاء، إيذاناً بعظمة صلاة الليل، وكرر الأمر بصلاتي الصبح والعصر إعلاماً بمزيد فضلهما، لأن ساعتيهما أثناء الطي والبعث فقال‏:‏ ‏{‏وأطراف النهار‏}‏ ويؤيد ما فهمته من أن ذلك تكرير لهما ما في الصحيحين عن جرير ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال‏:‏ كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال‏:‏

«إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا»، ثم قرأ هذه الاية‏.‏ وإلا لم يكن في الآية مزيد حث عليهما خاصة، على أن الفظ «آناء وأطراف» صالح لصلاة التطوع من الرواتب وغيرها ليلاً ونهاراً، وأفاد بذكر الجارّ في الآناء التبعيض، لأن الليل محل الراحة، ونزعه من الأطراف لتيسر استغراقها بالذكر، لأن النهار موضع النشاط واليقظة، ويجوز- وهو أحسن- أن يكون المراد بما قبل الطلوع الصبح، وما قبل الغروب العصر فقط، وببعض الآناء المغرب والعشاء، وأدخل الجار لكونهما وقتين، وبجميع الأطراف الصبح والظهر والعصر، لأن النهار له أربعة أطراف‏:‏ أوله، وآخره وآخر نصفه الأول، وأول نصفه الثاني، والكل مستغرق بالتسبيح، ولذلك نزع الجار، أما الأول والآخر فبالصبح والعصر، وأما الآخران فبالتهيؤ للصلاة ثم الصلاة نفسها، وحينئذ تكون الدلالة على فضيلة الصبح والعصر من وجهين‏:‏ التقديم والتكرير، وإلى ذلك الإشارة بالحديث، وإذا أريد إدخال النوافل حملت الأطراف على الساعات- والله الهادي‏.‏

ولما كان الغالب على الإنسان النسيان فكان الرجاء عنده أغلب، ذكر الجزاء بكلمة الإطماع لئلا يأمن فقال‏:‏ ‏{‏لعلك ترضى *‏}‏ أي افعل هذا لتكون على رجاء من أن يرضاك ربك فيرضيك في الدنيا والآخرة، بإظهار دينك وأعلاء أمرك، ولا يجعلك في عيش ضنك في الدنيا ولا في الآخرة- هذا على قراءة الكسائي وأبي بكر عن عاصم بالبناء للمفعول، والمعنى على قراءة الجماعة بالبناء للفاعل‏:‏ لتكون على رجاء من أن تكون راضياً دائماً في الدنيا والآخرة، ولا تكون كذلك إلا وقد أعطاك ربك جميع ما تؤمل‏.‏

ولما كانت النفس ميالة إلى الدنايا، مرهونة بالحاضر من فاني العطايا، وكان تخيلها عن ذلك هؤ الموصل إلى حريتها المؤذن بعلو همتها، قال مؤكداً إيذاناً بصعوبة ذلك‏:‏ ‏{‏ولا تمدن‏}‏ مؤكداً له بالنون الثقيلة ‏{‏عينيك‏}‏ أي لا تطوّل نظرهما بعد النظرة الأولى المعفو عنها قاصداً للاستحسان ‏{‏إلى ما متعنا به‏}‏ بما لنا من العظمة التي لا ينقصها تعظم أعدائنا به في هذه الحياة الفانية ‏{‏أزواجاً‏}‏ أي أصنافاً متشاكلين ‏{‏منهم‏}‏ أي من الكفرة ‏{‏زهرة‏}‏ أي تمتيع ‏{‏الحياة الدنيا‏}‏ لا ينتفعون به في الآخرة لعدم صرفهم له في أوامر الله، فهو مصدر من المعنى مثل جلست قعوداً، ثم علل تمتيعهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لنفتنهم فيه‏}‏ أي لنفعل بهم فعل المختبر، فيكون سبب عذابهم في الدنيا بالعيش الضنك لما مضى، وفي الآخرة بالعذاب الأليم، فصورته تغر من لم يتأمل معناها حق التأمل، فما أنت فيه خير مما هم فيه ‏{‏ورزق ربك‏}‏ الذي عود به أولياءه- وهو في دار السفر- الكفاف الطيب المقرون بالتوفيق ‏{‏خير‏}‏ من زهرتهم، لأنه يكفي ولا يطغي وزادك ما يدني إلى جنابه فيعلي ‏{‏وأبقى*‏}‏ فإنه وفقك لصرفه في الطاعة فكتب لك من أجره ما توفاه يوم الحاجة على وجه لا يمكن أحداً من الخلق حصره، وتكون الدنيا كلها فضلاً عما في أيديهم أقل من قطرة بالنسبة إلى بحره، وإضافة رزقه دون رزقهم إليه سبحانه- وإن كان الكل منه- للتشريف، وفي التعبير بالرب إيذان بالحل، وفيه إشارة إلى ظهوره عليهم وحياته بعدهم كما هو الشأن في الصالحين والطالحين‏.‏

ولما أمر بتزكية النفس أتبعه الإعلام بأن منها تزكية الغير، لأن ذلك أدل على الإخلاص، وأجدر بالخلاص، كما دل عليه مثل السفينة الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يأمر بالمعروف ومن يتركه فقال ‏{‏وأمر أهلك بالصلاة‏}‏ كما كان أبوك إسماعيل عليه السلام، ليقودهم إلى كل خير ‏{‏إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏ ولم يذكر الزكاة لدخولها في التزهيد بالآية التي قبلها‏.‏

ولما كانت شديدة على النفس عظيمة النفع، قال ‏{‏واصطبر‏}‏ بصيغة الافتعال ‏{‏عليها‏}‏ أي على فعلها، مفرغاً نفسك لها وإن شغلتك عن بعض أمر المعاش، لأنا ‏{‏لا نسألك رزقاً‏}‏ أي نكلفك طلبه لنفسك ولا لغيرك، فإن ما لنا من العظمة يأبى أن نكلفك أمراً، ولا نكفيك ما يشغلك عنه‏.‏

ولما كانت النفس بكليتها مصروفة إلى أمر المعاش، كانت كأنها تقول‏:‏ فمن أين يحصل الرزق‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏نحن‏}‏ بنون العظمة ‏{‏نرزقك‏}‏ لك ولهم ما قدرناه لكم من أيّ جهة شئنا من ملكنا الواسع وإن كان يظن أنها بعيدة، ولا ينفع في الرزق حول محتال، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا تدأبوا في تحصيله والسعي فيه، فإن كلاًّ من الجاد فيه والمتهاون به لا يناله أكثر مما قسمناه له في الأزل ولا أقل، فالمتقي لله المقبل على ذكره واثق بوعده قانع راض فهو في أوسع سعة، والمعرض متوكل على سعيه فهو في كد وشقاء وجهد وعناء أبداً ‏{‏والعاقبة‏}‏ أي الكاملة، وهي التي لا عاقبة في الحقيقة غيرها، وهي الحالة الجميلة المحمودة التي تعقب الأمور، أي تكون بعدها ‏{‏للتقوى*‏}‏ أي لأهلها، ولا معولة على الرزق وغيره توازي الصلاة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة- أخرجه أحمد عن حذيفة وعلقه البغوي في آخر سورة الحجر، وقال الطبراني في معجمه الأوسط‏:‏ ثنا أحمد- هو ابن يحيى الحلواني- ثنا سعيد- هو ابن سليمان- عن عبد الله بن المبارك عن معمر عن محمد بن حمزة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله الضيق أمرهم بالصلاة، ثم قرأ ‏{‏وأمر أهلك بالصلاة‏}‏ الآية‏.‏

لا يروى هذا الحديث عن عبد الله بن سلام إلا بهذا الإسناد، تفرد به معمر، وقال الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير في تفسيره‏:‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي عبد الله بن أبي زياد القطران ناسيارنا جعفر عن ثابت قال‏:‏ «كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أصابته خصاصة نادى أهله‏:‏ يأهلاه‏!‏ صلوا صلوا»، قال ثابت‏:‏ وكان الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة، وقد روى الترمذي وابن ماجه كلاهما في الزهد- وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب- من حديث عمران بن زائدة عن أبيه عن أبي خالد الوالبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يقول الله تعالى‏:‏ تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك» وروى ابن ماجه من حديث الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم أحوال الدنيا لم يبال الله في أيّ أوديتها هلك» وروى أيضاً من حديث عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمر، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة»‏.‏

ولما قدم في هذه السورة ما ذكر من قصص الأولين وأخبار الماضين، مبكتاً بذلك من أمر قريش بالتعنت من اليهود، فلم يقدروا على إنكار شيء منه ولا توجيه طعن إليه، وخلله ببدائع الحكم، وغرائب المواعظ في أرشق الكلم، وختم ذلك بأعظم داع إلى التقوى، عجب منهم في كونهم لا يذعنون للحق أنفة من المجاهرة بالباطل، أو خوفاً من سوء العواقب، فقال‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ ولعله عطف على ما يقدر في حيز قوله ‏{‏أفلم يهد لهم إلى قوله‏:‏ إن في ذلك لآيات‏}‏ من أن يقال‏:‏ وقد أبوا ذلك ولم يعدوا شيئاً منه آية‏:‏ ‏{‏لولا‏}‏ أي هلا ولم لا ‏{‏يأتينا‏}‏ أي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏بآية‏}‏ أي مثل آيات الأولين ‏{‏من ربه‏}‏ المحسن إليه، دالة على صدقه‏.‏

ولما تضمن هذا أنهم لم يعدوا شيئاً من هذه البينات- التي أدلى بها على من تقدمه- آية مكابرة، استحقوا الإنكار، فقال‏:‏ ‏{‏أولم‏}‏ أي ألم يأتهم من الآيات في هذا القرآن مما خصصتك به من الأحكام والحكم في أبلغ المعاني بأرشق النظوم ما أعجز بلغاءهم، وأبكم فصحاءهم، فدل قطعاً على أنه كلامي، أو لم ‏{‏تأتهم بينة ما‏}‏ أي الأخبار التي ‏{‏في الصحف الأولى*‏}‏ من صحف إبراهيم وموسى وعيسى وداود عليهم السلام في التوارة والإنجيل والزبور وغير ذلك من الكتب الإلهية كقصتي آدم وموسى المذكورتين في هذه السورة وغيرهما مما تقدم قصة لها كما هي عند أهلها على وجوه لا يعلمها إلا قليل من حذاقهم من غير أن يخالط عالماً منهم أو من غيرهم، ومن غير أن يقدر أحد منهم على معارضة ما أتى به في قصتها من النظم المنتج قطعاً أنه لا معلم له إلا الله المرسل له، وأن أتى به منها شاهد لما في الصحف الأولى من ذلك بالصدق، لأنه كلام الله، فهو بينة على غيره لإعجازه، فجميع الكتب الإلهية مفتقرة إلى شهادته افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة، ولا افتقار له بعد العجز عنه إلى شيء أصلاً، فهو أعظم من آيات جميع الأنبياء اللاتي يطلبون مثلها بما لا يقايس‏.‏

ولما تبين بذلك أنهم يطعنون بما لا شبهة لهم فيه أصلاً، أتبعه ما كان لهم فيه نوع شبهة لو وقع، فقال عاطفاً على ‏{‏ولولا كلمة‏}‏‏:‏ ‏{‏ولو أنا أهلكناهم‏}‏ معاملة لهم في عصيانهم بما يقتضيه مقام العظمة ‏{‏بعذاب من قبله‏}‏ أي من قبل هذا القرآن المذكور في الآية الماضية وما قاربها، وفي قوله ‏{‏ولا تعجل بالقرآن‏}‏ صريحاً، وكذا في مبنى السورة ‏{‏ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى‏}‏ ‏{‏لقالوا‏}‏ يوم القيامة‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ يا من هو متصف بالإحسان إلينا ‏{‏لولا‏}‏ أي هلا ولم لا ‏{‏أرسلت‏}‏ ودلوا على عظمته وعلو رتبته بحرف الغاية فقالوا‏:‏ ‏{‏إلينا رسولاً‏}‏ أي يأمرنا بطاعتك ‏{‏فنتبع‏}‏ أي فيتسبب عنه أن نتبع ‏{‏آياتك‏}‏ التي يجيئنا بها‏.‏

ولما كان اتباعهم لا يستغرق زمان القبل قالوا‏:‏ ‏{‏من قبل أن نذل‏}‏ بالعذاب هذا الذل ‏{‏ونخزى*‏}‏ بالمعاصي التي عملناها على جهل هذا الخري فلأجل ذلك أرسلناك إليهم وأقمنا بك حجة عليهم، ونحن نترفق بهم، ونكشف عن قلوب من شئنا منهم ما عليها من الرين بما ننزل من الذكر ونجدد من الآيات حتى نصدق أمرك ونعلي شأنك ونكثر أتباعك وننصر أشياعك‏.‏

ولما علم بهذا أن إيمانهم كالمتنع، وجدالهم لا ينقطع، بل إن جاءهم الهدى طعنوا فيه، وإن عذبوا قبله تظلموا، كان كأنه قيل‏:‏ فما الذي أفعل معهم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏قل كل‏}‏ أي مني ومنكم ‏{‏متربص‏}‏ أي منتظر حسن عاقبة أمره ودوائر الزمان على عدوه ‏{‏فتربصوا‏}‏ فإنكم كالبهائم ليس لكم تأمل، ولا تجوزون الجائز إلا عند وقوعه ‏{‏فستعلمون‏}‏ أي عما قريب بوعد لا خلف فيه عند كشف الغطاء ‏{‏من أصحاب الصراط‏}‏ أي الطريق الواضح الواسع ‏{‏السويّ‏}‏ أي الذي لا عوج فيه ولا نتوّ، فهو من شأنه أن يوصل إلى المقاصد‏.‏

ولما كان صاحب الشيء قد لا يكون عالماً بالشيء ولا عاملاً بما يعلم منه، قال ‏{‏ومن اهتدى*‏}‏ أي من الضلالة فحصل على جميع ما ينفعه واجتنب جميع ما يضره، نحن أم أنتم‏؟‏ ولقد علموا يقيناً ذلك يوم فتح مكة المشرفة، واشتد اغتباطهم بالإسلام، ودخلوا رغبة في الحلم والكرم، ورهبة من السيف والنقم، وكتنوا بعد ذلك يعجبون من توقفهم عنه ونفرتهم منه، وهذا معناه أنه صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه هم السعداء الأغنياء الراضون في الدنيا والآخرة، وهو عين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى‏}‏ فقد انطبق الآخر على الأول، ودل على أن العظيم يعامل بالحلم فلا يعجل- والله أعلم‏.‏

سورة الأنبياء

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ‏(‏1‏)‏ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏2‏)‏ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏3‏)‏ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏بسم‏}‏ الحكيم العدل الذي تمت قدرته وعم أمره ‏{‏الله‏}‏ الملك الذي لا كفوء له ‏{‏الرحمن‏}‏ الذي ساوى بين خلقه في رحمة إيجاده ‏{‏الرحيم*‏}‏ الذي ينجي من شاء من عباده في معاده‏.‏

لما ختمت طه بإنذارهم بأنهم سيعلمون الشقي والسعيد، وكان هذا العلم تارة يكون في الدنيا بكشف الحجاب بالإيمان، وتارة بمعانية ظهور الدينن وتارة بإحلال العذاب بإزهاق الروح بقتل أو غيره، وتارة ببعثها يوم الدين، افتتحت هذه بأجلى ذلك وهو اليوم الذي يتم فيه كشف الغطاء فينتقل فيه الخبر من علم اليقين إلى عين اليقين وحق اليقين وهو يوم الحساب، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏اقترب للناس‏}‏ أي عامة أنتم وغيركم ‏{‏حسابهم‏}‏ أي في يوم القيامة؛ وأشار بصيغة الافتعال إلى مزيد القرب لأنه لا أمة بعد هذه ينتظر أمرها، وأخر الفاعل تهويلاً لتذهب النفس في تعيينه كل مذهب، ويصح أن يراد بالحساب الجزاء، فيكون ذلك تهديداً بيوم بدر والفتح ونحوهما، ويكون المراد بالناس حينئذ قريشاً أو جميع العرب، والحساب‏:‏ إحصاء الشيء والمجازاة عليه بخير أو شر ‏{‏وهم‏}‏ أي الحال أنهم من أجل ما في جبلاتهم من النوس، وهو الاضطراب الموجب لعدم الثبات على حالة الأمن، أنقذه الله منهم من هذا النقص وهم قليل جداً ‏{‏في غفلة‏}‏ فهي تعليل لآخر تلك على ما تراه، لأنهم إذا نشروا علموا، وإذا أبادتهم الوقائع علموا هم بالموت، ومن بقي منهم بالذل المزيل لشماخة الكبر، أهل الحق من أهل الباطل، وقوله‏:‏ ‏{‏معرضون*‏}‏ كالتعليل للغفلة، أي أحاطت بهم الغفلة بسبب إعراضهم عما يأتيهم منا، وسيأتي ما يؤيد هذا في قوله آخرها ‏{‏بل كنا ظالمين‏}‏ وإلا فالعقول قاضية بأنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه‏:‏ لما تقدم قوله سبحانه ‏{‏لا تمدن عينيك‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 131‏]‏- إلى قوله- ‏{‏فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 131‏]‏ قال تعالى ‏{‏اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون‏}‏ أي لا تمدن عينيك إلى ذلك فإني جعلته فتنة لمن ناله بغير حق، ونسأل عن قليل ذلك وكثيره ‏{‏ولتسألن يومئذ عن النعيم‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 8‏]‏ والأمر قريب ‏{‏اقترب للناس حسابهم‏}‏ وأيضاً فإنه تعالى لما قال ‏{‏وتنذر به قوماً لداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 97‏]‏ وهم الشديدو الخصومة في الباطل، ثم قال ‏{‏وكم أهلكنا قبلهم من قرن‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 74‏]‏ إلى آخرها، استدعت هذه الجملة بسط حال، فابتدئت بتأنيسه عليه الصلاة السلام وتسليتة، حتى لا يشق عليه لددهم، فتضمنت سورة طه من هذا الغرض بشارته بقوله ‏{‏ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 2‏]‏ وتأنيسه بقصة موسى عليه السلام وما كان من حال بني إسرائيل وانتهاء أمر فرعون ومكابدة موسى عليه السلام لرد فرعون ومرتكبه إلى أن وقصه الله، وأهلكه، وأورث عباده أرضهم وديارهم، ثم اتبعت بقصة آدم عليه السلام ليرى نبيه صلى الله عليه وسلم سنته في عباده حتى أن آدم عليه السلام وإن لم يكن امتحانه بذريته ولا مكابدته من أبناء جنسه- فقد كابد من إبليس ما قصه الله في كتابه، وكل هذا تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا تقرر لديه أنه سنة الله تعالى في عبادة هان عليه لدد قريش ومكابدتهم، ثم ابتدئت سورة الأنبياء ببقية هذا التأنيس، فبين اقتراب الحساب ووقوع يوم الفصل المحمود فيه ثمرة ما كوبد في ذات الله والمتمنى فيه أن لو كان ذلك أكثر والمشقة أصعب لجليل الثمرة وجميل الجزاء، ثم اتبع ذلك سبحانه بعظات، ودلائل وبسط آيات، وأعلم أنه سبحانه قد سبقت سنته بإهلاك من لم يكن منه الإيمان من متقدمي القرون وسالفي الأمم

‏{‏ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 6‏]‏ وفي قوله ‏{‏أفهم يؤمنون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 6‏]‏ تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر قريش ومن قبل ما الكلام بسبيله، وقد تضمنت هذه السورة إلى ابتداء قصة إبراهيم عليه السلام من المواعظ والتنبيه على الدلالات وتحريك العباد إلى الاعتبار بها ما يعقب لمن اعتبر به التسليم والتفويض لله سبحانه والصبر علىلابتلاء وهو من مقصود السورة، وفي قوله ‏{‏ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 9‏]‏ إجمال لما فسره النصف الأخير من هذه السورة من تخليص الرسل عليهم السلام من قومهم وإهلاك من أسرف وأفك ولم يؤمن، وفي ذكر تخليص الرسل وتأييدهم الذي تضمنه النصف الأخير من لدن قوله ‏{‏ولقد ءاتينا إبراهيم رشده‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 51‏]‏ إلى آخر السورة كمال الغرض المتقدم من التأنيس وملاءمة ما تضمنته سورة طه وتفسير لمجمل ‏{‏وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 98‏]‏ انتهى‏.‏

ولما أخبر سبحانه عن غفلتهم وإعراضهم، علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ما يأتيهم‏}‏ وأعرق في النفي بقوله‏:‏ من ‏{‏ذكر‏}‏ أي وحي يذكر بما جعل في العقول من الدلائل عليه سبحانه ويوجب الشرف لمن أتبعه ‏{‏من ربهم‏}‏ المحسن إليهم بخلقهم وتذكيرهم، قديم لكونه صفة له ‏{‏محدث‏}‏ إنزاله ‏{‏إلا استمعوه‏}‏ أي قصدوا سماعه وهو أجد الجد وأحق الحق ‏{‏وهم‏}‏ أي والحال أنهم ‏{‏يلعبون*‏}‏ أي يفعلون فعل اللاعبين بالاستهزاء به ووضعه في غير مواضعه وجعلهم استماعهم له لإرادة الطعن فيه، فهو قريب من قوله ‏{‏لا تسمعوا لهذا القرآن والغو فيه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ ‏{‏لاهية قلوبهم‏}‏ أي غارقة قلوبهم في اللهو، مشغولة به عما حداها إليه القرآن، ونبهها عليه الفرقان، وحذرها منه البيان، قال الرازي في اللوامع‏:‏ لاهية‏:‏ مشتغلة من لهيت ألهى‏:‏ أو طالبة للهو، من لهوت ألهو- انتهى‏.‏ ويمكن أن يراد بالناس مع هذا كله العموم ويكون من باب قوله تعالى

‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ وقوله صلى الله عليه وسلم «لا أحصي ثناء عليك» وأن يخص بالكفار‏.‏

ولما ذكر ما يظهرونه في حال الاستماع من اللهو واللعب، ذكر ما يخفونه من التشارو في الصد عنه وإعمال الحيلة في التنفير منه والتوثق من بعضهم لبعض في الثبات على المجانبة له فقال عاطفاً على ‏{‏استمعوا‏}‏‏:‏ ‏{‏وأسروا‏}‏ أي الناس المحدث عنهم ‏{‏النجوى‏}‏ أي بالغوا في إسرار كلامهم بسبب الذكر، لأن المناجاة في اللغة السر- كذا في القاموس، وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه‏:‏ والنجوى‏:‏ الكلام بين اثنين كالسر والتشاور‏.‏

ولما أخبر بسوء ضمائرهم، أبدل من ضميرهم ما دل على العلة الحاملة لهم على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏الذين ظلموا‏}‏ ثم بين ما تناجوا به فقال‏:‏ ‏{‏هل‏}‏ أي فقالوا في تناجيهم هذا، معجبين من ادعائه النبوة مع مماثلته لهم في البشرية‏:‏ هل ‏{‏هذا‏}‏ الذي أتاكم بهذا الذكر ‏{‏إلا بشر مثلكم‏}‏ أي خلقه وأخلاقه من الأكل والشرب والحياة والموت، فكيف يختص عنكم بالرسالة‏؟‏ ما هذا الذي جاءكم به مما لا تقدرون على مثله إلا سحر لا حقيقة له، فحينئذ تسبب عن هذا الإنكار في قولهم‏:‏ ‏{‏أفتأتون السحر وأنتم‏}‏ أي والحال أنكم ‏{‏تبصرون*‏}‏ بأعينكم أنه بشر مثلكم، وببصائركم أن هذه الخوارق التي يأتي بها يمكن أن تكون سحراً، فيا لله العجب من قوم رأوا ما أعجزهم فلم يجوزوا أن يكون عن الرحمن الداعي إلى الفوز بالجنان وجزموا بأنه من الشيطان الداعي إلى الهوان، باصطلاء النيران، والعجب أيضاً أنهم أنكروا الاختصاص بالرسالة مع مشاهدتهم لما يخص الله به بعض الناس عن بعض الذكاء والفطنة، وحسن الخلائق والأخلاق، والقوة والصحة، وطول العمر وسعة الرزق- ونحو ذلك من القيافة والعيافة والرجز والكهانة، ويأتون أصحابها لسؤالهم عما عندهم من ذلك من العلم‏.‏

ولما كان الله تعالى لا يقر من كذب عليه، فضلاً عن أن يصدقه ويؤيده، ولا يخفى عليه كيد حتى يلزم منه نقص ما أراده، قال دالاً لهم على صدقه منبهاً على موضع الجحة في أمره- على قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، وجواباً لمن كأنه قال‏:‏ فماذا يقال لهؤلاء‏؟‏- على قراءة الباقين‏:‏ ‏{‏قال ربي‏}‏ المحسن إليّ بتأييدي بكل ما يبين صدقي ويحمل على أتباعي ‏{‏يعلم القول‏}‏ سواء كان سراً أو جهراً‏.‏

ولما كان من يسمع من هاتين المسافتين يسمع من أيّ مسافة فرضت غيرهما قطعاً، لم يحتج إلى جمع على أنه يصح إرادة الجنس فقال‏:‏ ‏{‏في السماء والأرض‏}‏ على حد سواء، لأنه لا مسافة بينه وبين شيء من ذلك ‏{‏وهو‏}‏ أي وحده ‏{‏السميع العليم*‏}‏ يسمع كل ما يمكن سمعه، ويعلم كل ما يمكن علمه من القول وغيره، فهو يسمع سركم، ويبطل مكركم، ويسمع ما أنسبه إليه من هذا الذكر، فلو لم يكن عنه لزلزل بي، وقد جرت سنته القديمة في الأولين، بإهلاك المكذبين، وتأييد الصادقين، وإنجائهم من زمن نوح عليه السلام إلى هذا الزمان، ولعلمه بحال الفريقين‏.‏

وستعلمون لمن تكون له العاقبة، وقد أشار إلى هذا في هؤلاء الأنبياء عليهم السلام الذين دل بقصصهم في هذه السورة على ما تقدمها من الأحكام والقضايا ‏{‏وكنا به عالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 51‏]‏ ‏{‏إذ قال لأبيه وقومه وكنا لحكمهم شاهدين‏}‏ و‏{‏كنا بكل شيء عالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 88‏]‏ ‏{‏وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 109‏]‏ ‏{‏إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 110‏]‏ ‏{‏إن الأرض يرثها عبادي الصالحون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 105‏]‏ ‏{‏ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 9‏]‏

‏{‏بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏5‏)‏ مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏7‏)‏ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

ولما كانت أقوالهم في أمر القرآن قد اضطربت، والإضطراب من أمارات الباطل، وكان وصفهم له بأنه سحر مما يهول السامع ويعلم منه أنه معجز، فربما أدى إلى الاستبصار في أمره، أخبر أنهم نزلوا به عن رتبة السحر على سبيل الاضطراب فقال‏:‏ ‏{‏بل قالوا‏}‏ أي عن هذا الذكر الحكيم أنه ‏{‏أضغاث أحلام‏}‏ أي تخاليط نائم مبناه الباطل وإن كان ربما صدق بالأخبار ببعض المغيبات التي كشف الزمان عن أنها كما أخبر القرآن، ثم أنزلوا عن ذلك إلى الوصف موجب لأعظم النفرة عنه وعمن ظهر عنه فقالوا‏:‏ ‏{‏بل افتراه‏}‏ أي تعمد وصفه من عند نفسه ونسبه إلى الله‏.‏

ولما كان ذلك لا ينافي كون مضمونه صادقاً في نفسه، قالوا ‏{‏بل هو شاعر‏}‏ أي يخيل ما لا حقيقة له كغيره من الشعراء، تتربص به ريب المنون لأنه بشر كما تقدم، فلا بد أن يموت ونستريح بعد موته، وإليه أشار في آخر التي قبلها ‏{‏قل كل متربص‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 135‏]‏ إلى أخره، فاضطربت أقوالهم وعوّلوا أخيراً على قريب من السحر في نفي الحقيقة‏.‏

ولما كانوا يصفون القرآن بجميع هذه الأوصاف جملة، يقولون لكل شخص ما رأوه أنسب له منها، نبه الله سبحانه كل من له لب على بطلانها كلها بتناقضها بحرف الإضراب إشارة إلى أنه كان يجب على من قالها على قلة عقله وعدم حيائه أن لا ينتقل إلى قول منها إلا بعد الإعراض عن الذي قبله، وأنه مما يضرب عنه لكونه غلطاً، ما قيل إلا عن سبق لسان وعدم تأمل، ستراً لعناده وتدليساً لفجوره، ولو فعل ذلك لكانت جديرة بانكشاف بطلانها بمجرد الانتقال فكيف عند اجتماعها‏.‏ ولما كانت نسبته إلى الشعر أضعفها شأناً، وأوضحها بطلاناً، لم يحتج إلى إضراب عنه، وعبروا في الأضغاث بوصف القرآن تأكيداً لعيبه، وفي الافتراء والشعر بوصفه صلى الله عليه وسلم لذلك‏.‏

ولما أنتج لهم ذلك على زعمهم القدح في أعظم المعجزات، سببوا عن هذا القدح طلب آية فقالوا‏:‏ ‏{‏فليأتنا‏}‏ أي دليلاً على رسالته ‏{‏بآية‏}‏ أي لأنا قد بينا بطعننا أن القرآن ليس بآية؛ ثم خيلوا النصفة بقولهم‏:‏ ‏{‏كما‏}‏ أي مثل ما، وبنوا الفعل للمفعول إشارة إلى أنه متى صحت الرسالة كان ذلك بزعمهم من غير تخلف لشيء أصلاً فقالوا‏:‏ ‏{‏أرسل الأولون*‏}‏ أي بالآيات مثل تسبيح الجبال، وتسخير الريح، وتفجير الماء، وإحياء الموتى، وهذا تناقض آخر في اعترافهم برسالة الأولين مع معرفتهم أنهم بشر، وإنكارهم رسالته صلى الله عليه وسلم لكونه بشراً، ولم يستحيوا بعد التناقض من المكابرة فيما أتاهم به من انشقاق القمر، وتسبيح الحصى، ونبع الماء، والقرآن المعجز، مع كونه أمياً- إلى غير ذلك‏.‏

ولما أشار سبحانه إلى فساد طعنهم بما جعله هباء منثوراً، وتضمن قولهم الذي سببوه عنه القرار بالرسل البشريين وأياتهم، أتبعه بيان ما عليهم فيه، فبين أولاً أن الآيات تكون سبباً للهلاك، فقال جواباً لمن كأنه قال‏:‏ رب أجبهم إلى ما اقترحوه ليؤمنوا‏:‏ ‏{‏ما ءامنت‏}‏ أي بالإجابة إلى الآيات المقترحات‏.‏

ولما كان المراد استغراق الزمان، جرد الظرف عن الخافض فقال‏:‏ ‏{‏قبلهم‏}‏ أي قبل كفار مكة المقترحين عليك، وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من قرية‏}‏ ولما كان المقصود التهويل في الإهلاك، وكان إهلاك القرية دالاً على إهلاك أهلها من غير عكس، دل على إهلاك جميع المقترحين تحذيراً من مثل حالهم بوصفها بقوله في مظهر العظمة المقتضي لإهلاك المعاندين‏:‏ ‏{‏أهلكناها‏}‏ أي على كثرتهم ‏{‏وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 17‏]‏، ‏{‏وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 208‏]‏، ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ «وما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» وأشار بذلك إلى أنه لم يسلم عند البأس إلا قرية واحدة وهم قوم يونس لأنهم آمنوا عند رؤية المخايل وقيل الشروع في الإهلاك، وهو إشارة إلى أن سبب الإيمان مشيئته سبحانه لا الآيات‏.‏

ولما كانوا كمن قبلهم إن لم يكونوا دونهم، حسن الإنكار في قوله‏:‏ ‏{‏أفهم يؤمنون*‏}‏ أي كلا‏!‏ بل لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم حين لا ينفع الإيمان، وقد قضينا في الإزل أن لا نستأصل هذه الأمة إكراماً لنبيها، فنحن لا نجيبهم إلى المقترحات لذلك‏.‏

ولما بين أولاً أن الآيات تكون سبباً للهلاك، فلا فائدة في الإجابة إلى ما اقترحوه منها بعد بطلان ما قدحوا به في القرآن، بيّن ثانياً بطلان ما قدحوا به في الرسول بكونه بشراً، بأن الرسل الذين كانوا من قبله كانوا بإقرارهم من جنسه، فما لهم أن ينكروا رسالته هو مثلهم، بل عليهم أن يعترفوا له عندما أظهر من المعجز كما اعترفوا لأولئك، كل ذلك فطماً عن أن يتمنى أحد إجابتهم إلى التأييد بملك ظاهر، فقال عاطفاً على ما «آمنت»‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا‏}‏‏.‏

ولما كان السياق لإنكار أن يكون النبي بشراً، وكان الدهر كله ما خلا قط جزء منه من رسالة، إما برسول قائم، وإما بتناقل أخباره، كان تعميم الزمان أنسب فقال من غير حرف جر‏:‏ ‏{‏قبلك‏}‏ أي في جميع الزمان الذي تقدم زمانك في جميع طوائف البشر ‏{‏إلا رجالاً نوحي إليهم‏}‏ بالملائكة سراً من غير أن يطلع على ذلك الملك غيرهم كما اقتضته العظمة من التخصيص والاختيار والإسرار عن الأغيار، وذلك من نعم الله على خلقه، لأن جعل الرسل من البشر أمكن للتلقي منهم والأخذ عنهم‏.‏

ولما لم يكن لهم طريق في علم هذا إن يقبلوا خبره عن القرآن إلا سؤال من كانوا يفزعون إليهم من أهل الكتاب ليشايعوهم على ما هم عليه من الشك والارتياب، قال‏:‏ ‏{‏فسألوا أهل الذكر‏}‏ ثم نبه على أنهم غير محتاجين فيه إلى السؤال بما كان قد بلغهم على الآجال من أحوال موسى وعيسى وإبراهيم وإسماعيل وغيرهم عليهم الصلاة والسلام بقوله، معبراً بأداة الشكك محركاً لهم إلى المعالي‏:‏ ‏{‏إن كنتم‏}‏ أي بجبلاتكم ‏{‏لا تعلمون*‏}‏ أي لا أهلية لك في اقتناص علم، بل كنتم أهل تقليد محض وتبع صرف‏.‏

ولما بين أنه على سنة من مضى من الرسل في كونه رجلاً، بين أنه على سنتهم في جميع الأوصاف التي حكم بها على البشر من العيش والموت فقال‏:‏ ‏{‏وما جعلناهم‏}‏ أي الرسل الذين اخترنا بعثهم إلى الناس ليأمروهم بأوامرنا‏.‏ ولما كان السبب في الأكل ترتيب هذا الهيكل الحيواني على ما هو عليه لا كونه متكثراً، وحد فقال ‏{‏جسداً‏}‏ أي ذوي جسد لحم ودم متصفين بأنهم ‏{‏لا يأكلون الطعام‏}‏ بل جعلناهم أجساداً يأكلون ويشربون، وليس ذلك بمانع من إرسالهم؛ قال ابن فارس في المجمل‏:‏ وفي كتاب الخليل‏:‏ إن الجسد لا يقال لغير الإنسان من خلق الأرض‏.‏ ثم عطف على الأول قوله‏:‏ ‏{‏وما كانوا خالدين*‏}‏ أي بأجسادهم، بل ماتوا كما مات الناس قبلهم وبعدهم، أي لم يكن ذلك في جبلتهم وإنما تميزوا عن الناس بما يأتيهم عن الله سبحانه، ورسولكم صلى الله عليه وسلم ليس بخالد، فتربصوا كما أشار إليه ختم طه فإنه متربص بكم وأنتم عاصون للملك الذي اقترب حسابه لخلقه وهو مطيع له، فأيكم أحق بالأمن‏؟‏ ولما بين أن الرسل كالمرسل إليهم بشر غير خالدين، بين سنته فيهم وفي أممهم ترغيباً لمن اتبع، وترهيباً لمن امتنع، فقال عاطفاً بأداة التراخي في مظهر العظمة على ما أرشد إليه التقدير من مثل‏:‏ بل جعلناهم جسداً يأكلون ويشربون، ويعيشون إلى انقضاء آجالهم ويموتون، وأرسلناهم إلى أممهم فحذروهم وأنذروهم وكلموهم كما أمرناهم، ووعدناهم أن من آمن بهم أسعدناه، ومن كفر واستمر أشقيناه، وأنا نهلك من أردنا من المكذبين، فآمن بهم بعض وكفر آخرون؛ فلم نعاجلهم بالأخذ بل صبرنا عليهم، وطال بلاء رسلنا بهم ‏{‏ثم صدقناهم‏}‏ بما اقتضت عظمتنا، وأكد الأمر بتعدية الفعل من غير حرف الجر فقال‏:‏ ‏{‏الوعد‏}‏ أي بإنجائهم؛ وأشار بأداة التراخي إلى أنهم طال بلاؤهم بهم وصبرهم عليهم، ثم أحل بهم سطوته، وأراهم عظمته، ولذا قال مسبباً عن ذلك‏:‏ ‏{‏فأنجيناهم‏}‏ أي الرسل بعظمتنا، ولكون السياق لأنهم في غاية الغفلة التي نشأ عنها التكذيب البليغ الذي اقتضى تنويع القول به إلى سحر وأضغاث وافتراء وشعر، فاقتضى مقابلته بصدق الوعد منه سبحانه، عبر بالإنجاء الذي هو إقلاع من وجدة العذاب في غاية السرعة ‏{‏ومن نشآء‏}‏ أي من تابعيهم‏.‏ إشارة إلى أن سبب الإنجاء المشيئة لا أن التصديق موجب له، لأنه لا يجب عليه سبحانه وتعالى شيء ‏{‏وأهلكنا‏}‏ أي بما يقتضيه الحكمة ‏{‏المسرفين*‏}‏ كلهم الذين علمنا أن الإسراف لهم وصف لازم لا ينفكون عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 15‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏10‏)‏ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏11‏)‏ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ‏(‏12‏)‏ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ‏(‏13‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏14‏)‏ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

ولما انقضى ما لزمهم بسبب الإقرار برسلية البشر من الإقرار برسلية رسولهم صلى الله عليه وسلم لكونه مساوياً لهم في النوع والإتيان بالمعجز، وما فعل بهم وبأممهم ترغيباً وترهيباً، وختم ذلك بأنه أباد المسرفين، ومحا ذكرهم إلا بالبشر، التفت إلى الذكر الذي طعنوا فيه، فقال مجيباً لمن كأنه قال‏:‏ هذا الجواب عن الطعن في الرسول قد عرف، فما الجواب عن الطعن في الذكر‏؟‏ معرضاً عن جوابهم لما تقدم من الإشارة بحرف الإضراب إلى أن ما طعنوا به فيه لا يقوله عاقل، مبيناً لما لهم فيه من الغبطة التي هم لها رادون، والنعمة التي هم بها كافرون‏:‏ ‏{‏لقد‏}‏ أي وعزتنا لقد ‏{‏أنزلنا‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏إليكم‏}‏ يا معشر قريش بل العرب قاطبة ‏{‏كتاباً‏}‏ أي جامعاً لجميع المحاسن لا يغسله الماء ولا يحرقه النار ‏{‏فيه ذكركم‏}‏ طوال الدهر بالخير إن أطعتم، والشر إن عصيتم، وبه شرفكم على سائر الأمم بشرف ما فيه من مكارم الأخلاق التي كنتم تتفاخرون بها وبشرف نبيكم الذي تقولون عليه الأباطيل، وتكثرون فيه القال والقيل‏.‏

ولما تم ذلك على هذا الوجه، نبه أنه يتعين على كل ذي لب الإقبال عليه والمسارعة إليه، فحسن جداً قوله منكراً عليهم منبهاً على أن علم ذلك لا يحتاج إلى غير العقل المجرد عن الهوى‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون*‏}‏‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإن عدلتم بقبوله شرفناكم، وإن ظلمتم برده عناداً أهلكناكم كما أهلكنا من كان قبلكم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وكم قصمنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏من قرية‏}‏ جعلناها كالشيء اليابس الذي كسر فتباينت أجزاؤه، والإناء الذي فت فانكب ماؤه؛ وأشار بالقصم الذي هو أفظع الكسر إلى أنها كانت باجتماع الكلمة وشدة الشكيمة كالحجر الرخام في الصلابة والقوة، و«كم» في هذا السياق يقتضي الكثرة، ثم علل إهلاكها وانتقالها بقوله‏:‏ ‏{‏كانت ظالمة‏}‏ ثم بين الغنى عنها بقوله‏:‏ ‏{‏وأنشأنا‏}‏ أي بعظمتنا‏.‏

ولما كان الدهر لم يخل قط بعد آدم من إنشاء وإفناء، فكان المراد أن الإنشاء بعد الإهلاك يستغرق الزمان على التعاقب، بياناً لأن المهلكين ضروا أنفسهم من غير افتقار إليهم، اسقط الجار فقال‏:‏ ‏{‏بعدها قوماً‏}‏ أي أقوياء، وحقق أنهم لا قرابة قريبة بينهم بقوله‏:‏ ‏{‏ءاخرين*‏}‏ ثم بين حالها عند إحلال البأس بها فقال‏:‏ ‏{‏فلما أحسوا *‏}‏ أي أدرك أهلها بحواسهم ‏{‏بأسنا‏}‏ أي بما فيه من العظمة ‏{‏إذا هم‏}‏ أي من غير توقف أصلاً ‏{‏منها‏}‏ أي القرية ‏{‏يركضون*‏}‏ هاربين عنها مسرعين كمن يركض الخيل- أي يحركها- للعدو، بعد تجبرهم على الرسل وقولهم لهم ‏{‏لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 13‏]‏ فناداهم لسان الحال تقريعاً تبشيعاً لحالهم وتفظيعاً‏:‏ ‏{‏لا تركضوا‏}‏ وصور التهكم بهم بأعظم صورة فقال‏:‏ ‏{‏وارجعوا‏}‏ إلى قريتكم ‏{‏إلى ما‏}‏‏.‏

ولما كان التأسيف إنما هو على العيش الرافه لا على كونه من معط معين، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏أترفتم فيه‏}‏ أي منها، ويجوز أن يكون بني للمجهول إشارة إلى غفلتهم عن العلم لمن أترفهم أو إلى أنهم كانوا ينسبون نعمتهم إلى قواهم، ولو عدوها من الله لشكروه فنفعهم‏.‏ ولما كان أعظم ما يؤسف عليه بعد العيش الناعم المسكن، قال‏:‏ ‏{‏ومساكنكم‏}‏ أي التي كنتم تفتخرون بها على الضعفاء من عبادي بما أتقنتم من بنائها، وأوسعتم من فنائها، وعليتم من مقاعدها، وحسنتم من مشاهدها ومعاهدها ‏{‏لعلكم تسألون*‏}‏ في الإيمان بما كنتم تسألون، فتابوا بما عندكم من الأنفة ومزيد الحمية والعظمة، أو تسألون في الحوائج والمهمات، كما يكون الرؤساء في مقاعدهم العلية، ومراتبهم البهية، فيجيبون سائلهم بما شاؤوا على تؤدة وأحوال مهل تخالف أحوال الراكض العجل ‏{‏أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 44‏]‏‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ بما أجابوا هذا المقال‏؟‏ قيل ‏{‏قالوا‏}‏ حين لا نفع لقولهم عند نزول البأس‏:‏ ‏{‏يا ويلنا‏}‏ إشارة إلى أنه حل بهم لأنه لا ينادي إلا القريب، وترفقاً له كما يقول الشخص لمن يضربه‏:‏ يا سيدي- كأنه يستغيث به ليكف عنه، وذلك غباوة منهم، وعمى عن الذي أحله بهم، لأنهم كالبهائم لا ينظرون إلا السبب الأقرب؛ ثم عللوا حلوله بهم تأكيداً لترفقهم بقولهم‏:‏ ‏{‏إنا كنا‏}‏ أي جبلة لنا وطبعاً ‏{‏ظالمين*‏}‏ حيث كذبنا الرسل، وعصينا أمر ربنا، فاعترفوا حيث لم ينفعهم الاعتراف لفوات محله ‏{‏فما‏}‏ أي فتسبب عن إحلالنا ذلك البأس بهم أنه ما ‏{‏زالت تلك‏}‏ أي الدعوة البعيدة عن الخير والسلامة، وهي قولهم‏:‏ يا ويلنا ‏{‏دعواهم‏}‏ يرددونها لا يكون دعوى لهم غيرها، لأن الويل ملازم لهم غير منفك عنهم، وترفقهم له غير نافعهم ‏{‏حتى جعلناهم‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏حصيداً‏}‏ كالزرع المحصود‏.‏

ولما كان هذا وما بعده مثل حلو حامض في الزمان، جعلا خبراً واحداً ليكون «جعل» مقتصراً على مفعولين فقال‏:‏ ‏{‏خامدين*‏}‏ أي جامعين للانقطاع والخفوت، لا حركة لهم ولا صوت، كالنار المضطرمة إذا بطل لهيبها ثم جمرها وصارت رماداً، ولم يك ينفعهم إيمانهم واعترافهم بالظلم وخضوعهم لما رأوا بأسنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 20‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏16‏)‏ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏17‏)‏ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ‏(‏19‏)‏ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

ولما ذمهم باللعب وبين أنه يفعل في إهلاك الظلم وإنجاء العدل فعل الجاد بإحقاق الحق بالانتقام لأهله، وإزهاق الباطل باجتثاثه من أصله، فكان التقدير‏:‏ وما ينبغي لنا أن نفعل غير ذلك من أفعال الحكمة العرية عن اللعب، فلم نخلق الناس عبثاً يعصوننا ولا يؤاخذون، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وما خلقنا‏}‏ أي بعظمتنا التي تقتضي الجد ولا بد‏.‏

ولما كان خلق السماء واحدة يكفي في الدلالة على الحكمة فكيف بأكثر منها‏!‏ وحّد فقال‏:‏ ‏{‏السماء‏}‏ أي على علوها وإحكامها ‏{‏والأرض‏}‏ على عظمها واتساعها ‏{‏وما بينهما‏}‏ مما دبرناه لتمام المنافع من أصناف البدائع وغرائب الصنائع ‏{‏لاعبين*‏}‏ غير مريدين بذلك تحقيق الحقائق وإبطال الأباطيل، بل خلقنا لكم ذلك آية عظيمة كافية في الوصول إلينا ليظهر العدل في جزاء كل بما يستحق، مشحونة بما يقوت الأجسام، ويهيج النفوس، ويشرح الصدور، ويريح الأرواح ويبعث إلى الاعتبار، كلَّ من له استبصاراً، للدلالة على حكمتنا ووجوب وحدانيتنا فاتخذتم أنتم ما زاد على الحاجة لهواً صاداً عن الخير، داعياً إلى الضير‏.‏

ولما نفى عنه اللعب، أتبعه دليله فقال‏:‏ ‏{‏لو أردنا‏}‏ أي على عظمتنا ‏{‏أن نتخذ لهواً‏}‏ يكون لنا ومنسوباً في لهوه إلينا، واللهو- قال الأصفهاني‏:‏ صرف الهم عن النفس بالقبيح‏.‏ ‏{‏لاتخذناه‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏من لدنا‏}‏ أي مما يليق أن ينسب إلى حضرتنا بما لنا من تمام القدرة وكمال العظمة، وباهر الجلالة والحكمة، وذلك بأن يكون محض لهو لا جد فيه أصلاً، ولا يخلطه شيء من الكدر، ولا يتوقف من يراه في تسميته لهواً، لا يكون له عنده اسم غير ذلك كما لو أن شمساً أخرى وجدت لم يتوقف أحد في تسميتها شمساً كما قال تعالى في السورة الماضية ‏{‏وقد ءاتيناك من لدنا ذكراً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 99‏]‏ أي فهو بحيث لا يتوقف أحد في أنه من عندنا، وأنه ذكر وموعظة كما مضى، لكنا لم نرد ذلك فلم يكن، وما اتخذتموه لهواً فإنا خلقناه لغير ذلك بدليل ما فيه من الشواغل والمنغصات والقواطع فاتخذتموه أنتم من عند أنفسكم لهواً، فكان أكثره لكم ضراً وعليكم شراً، وخص الحرالي ‏{‏عند‏}‏ بما ظهر، و‏{‏لدن‏}‏ بما بطن، فعلى هذا يكون المراد‏:‏ من حضرتنا الخاصة بنا الخفية التي لا يطلع عليها غيرنا، لأن ما للملك لا يكون مبتذلاً، وكذلك لم يذكر إلا ما يتحقق المكذبون بالبعث رؤيته فوحد السماء هنا وجمعها في غير هذا الموضع لاقتضاء الحال ذلك‏.‏

ولما كان هذا مما ينبغي أن تنزه الحضرة القدوسية عنه وعن مجرد ذكره ولو على سبيل الفرض، أشار إلى ذلك بأداة شرط أخرى فقال‏:‏ ‏{‏إن كنا فاعلين*‏}‏ أي له، ولكنه لا يليق بجنابنا فلم نفعله ولا نكون فاعلين له ‏{‏بل‏}‏ وإشعار لهذا المعنى بالقذف والدمغ تصويراً للحق بجعل الحق كأنه جرم صلب كالصخرة قذف بها على جرم رخو أجوف فقال‏:‏ ‏{‏نقذف‏}‏ أي إنما شأننا أن نرمي رمياً شديداً ‏{‏بالحق‏}‏ الذي هو هذا الذكر الحكيم الذي أنزلناه جداً كله وثباتاً جميعه لا لهو فيه ولا باطل، ولا هو مقارب لشيء منهما، ولا تقدرون أن تتخذوا شيئاً منه لهواً اتخاذاً يطابقكم عليه منصف، فنحن نقذف به ‏{‏على الباطل‏}‏ الذي أحدثتموه من غير أنفسكم ‏{‏فيدمغه‏}‏ أي فيمحقه محق المكسور الدماغ ‏{‏فإذا هو‏}‏ في الحال ‏{‏زاهق‏}‏ أي ذاهب الروح أي هالك؛ ثم عطف على ما أفادته «إذا» قوله‏:‏ ‏{‏ولكم‏}‏ أي وإذا لكم أيها المبطلون ‏{‏الويل مما تصفون*‏}‏ أي من وصفكم لكل شيء بما تهوى أنفسكم من غير إذن منا لكم، لأنكم لا تقفون على حقائق الأمور، فإن وصفتم القرآن بشيء مما تقدم ثم قذفنا عليه بما يبين بطلانه، بان لكل عاقل أنه يجب عليكم أن تنادموا الويل بميلكم كل الميل، وإن وصفتم الله أو الدنيا أو غيرهما فكذلك إنما أنتم متعلقون بقشور وظواهر لا يرضاها إلا بعيد عن العقل محجوب عن الإدراك؛ ثم عطف أيضاً على ما لزم من ذلك القذف قوله‏:‏ ‏{‏وله من في السماوات‏}‏ أي الأجرام العالية وهي ما تحت العرش، وجمع السماء هنا لا قتضاء تعميم الملك ذلك‏.‏

ولما كانت عقولهم لا تدرك تعدد الأراضي، وحد فقال‏:‏ ‏{‏والأرض‏}‏ أي ومن فيها، وذلك شامل- على أن التعبير بمن لتغليب العقلاء- للسماوات والأرض، لأن الأرض في السماوات، وكل سماء في التي فوقها، والعليا في العرش وهو سبحانه ذو العرش العظيم- كما سيأتي قريباً، فدل ذلك دلالة عقلية على أنه مالك الكل وملكه‏.‏

ولما كانوا يصفون الملائكة بما لهم الويل من وصفه، خصهم بالذكر معبراً عن خصوصيتهم وقربهم بالعندية تمثيلاً بما نعرف من أصفياء الملوك عند التعبير بعند من مجرد القرب في المكانة لا في المكان فقال‏:‏ ‏{‏ومن عنده‏}‏ أي هم له حال كونهم ‏{‏لا يستكبرون عن عبادته‏}‏ بنوع كبر طلباً ولا إيجاداً ‏{‏ولا يستحسرون*‏}‏ أي ولا يطلبون أن ينقطعوا عن ذلك فأنتج ذلك قوله‏:‏ ‏{‏يسبحون‏}‏ أي ينزهون المستحق للتنزيه بأنواع التنزيه من الأقوال والأفعال التي هي عبادة، فهي مقتضية مع نفي النقائص إثبات الكمال ‏{‏الّيل والنهار‏}‏ أي في جميع آنائهما دائماً‏.‏ ولما لم يصرح هنا بإنكار منهم، ولا ما يستلزمه من الاستكبار، لم يؤكد لا عطف بالواو فقال‏:‏ ‏{‏لا يفترون*‏}‏ عن ذلك في وقت من الأوقات بخلاف ما في ‏{‏فصلت‏}‏ فإن الأمر فيها مبني على حد استكبارهم المستلزم لأنكارهم المقتضي للتأكيد، وكل هذا في حيز ‏{‏إذا‏}‏ أي إذا أنزلنا شيئاً من القرآن منبهاً على أقاويلكم مبيناً لأباطيلكم، فاجأه ظهور الزهوق للباطل، والويل لكم والملك له سبحانه منزهاً عن كل نقص ثابتاً له بالعبادة كل كمال، ويجوز أن يعطف على ‏{‏نقذف‏}‏‏.‏